يلجأ الرئيس عبّاس إلى منابر الأمم المتّحدة للدعوة على "الظّالمين" الذين يمنعون إقامة دولة فلسطينيّة، وتلجأ حماس إلى مقاعد المجلس التشريعي حتّى تنزع صفة الشرعيّة عن "الظالمين" المتمسّكين بمقعد الرئاسة – الرئيس عباس – عبر مقاعد هي أصلاً فاقدة للشرعيّة بالمنطقِ ذاته الذي تستخدمه لنزع الشرعيّة عن الرئيس عبّاس وهو انتهاء الولاية القانونيّة.
تلجأ حماس إلى الدّفع بعشرات الآلاف من البشر يوميًا إلى الحدود مع إسرائيل، وإلى أساليب المقاومة السلميّة للضغط على الكيان الصهيوني لفكّ الحصار. تلوّح بالحرب حينًا وبالتهدئة حينًا. تخاطب المجتمع الإسرائيليّ بعد عقود من المقاطعة. عبّاس يلجأ إلى المعارضة الإسرائيليّة للضغط على نتنياهو ومخاطبة المجتمع الإسرائيلي للعودة إلى مسار حلّ الدولتين. تحاول حماس أن تطرح نفسها بديلاً لعبّاس عبر التلويح بخيار نزع السلاح مقابل العودة إلى القدس واللد، تلك طبعًا طُروحات تبدأ بهذه الحدّة وتنتهي إلى القبول – كما يعلِّمنا التاريخ – بسلاح صدئ مقابل ميناء ومعبر حدوديّ.
لا عبّاس يقرّ بفشله الفادح والكارثيّ على القضيّة الفلسطينيّة، ولا حماس تقوم بأيّ مراجعات لنهجها في المقاومة الذي أثبت فشله
ينسحب سلاح المقاومة إلى قلب القطاع وحدوده، وتحلُّ محلّه الأجساد والصدر العارية التي بذلت حتّى الآن منذ بداية مسيرات العودة وحتى اللحظة أكثر من 186 شهيدًا وآلاف الجرحى، دون أيّ نجاح ملحوظ في منطق الضغط على الكيان الصهيونيّ لفكّ الحصار. تتعثّر مفاوضات التهدئة. مفاوضات السلام ميّتة أصلاً. لا عبّاس يقرّ بفشله الفادح والكارثيّ على القضيّة الفلسطينيّة، ولا حماس تقوم بأيّ مراجعات لنهجها في المقاومة الذي أثبت فشله. بعد ثلاث حروب إسرائيليّة طاحنة على قطاع غزّة، ثَبُتَ أنّ المقاومة المسلّحة في منهج حماس، لم تؤتِ أكُلَها إلّا في وقف آلة القتل الإسرائيليّة وإيجاد حالة من الرّدع الذي ينعكسُ سلبًا على حركة حمّاس.
اقرأ/ي أيضًا: قرب المكان المنقرض: غزة وممكنات مخيمها
أن لا يكون هنالك حرب على قطاع غزّة، يعني أن تعيش إسرائيل في سلام، وأن يعيش قطاع غزّة في حالة حصار دائمة. ذلك هو ميزان الرّدع. موجة من الصواريخ على إسرائيل تعني الحرب. موجة من البشر على الحدود تعني لا شيء. قبل عام 2005 لم تتوقّف مدافع الهاون من التساقط على مستوطنات قطاع غزّة حتى توصّل شارون إلى استنتاج مفاده أنّ التكلفة أعلى من البقاء وقرّر الانسحاب من القطاع، وبعد ذلك بدأت استراتيجيّة العزل حتّى التوصّل إلى حالة الرّدع القائمة الآن والتي تعملُ لصالح إسرائيل. أمّا اليوم، هاون واحد قد يجرُّ إلى حرب، وتُضطَّرُ حركة المقاومة إلى لجم أيّ حركة مقاومة فرديّة أخرى من جرّ القطاع إلى حرب. يُصبِحُ السِّلاح عبئًا على صاحبه بدلاً من أن يُوصل صاحبه إلى تحقيق غاياته. يخرج النّاس عراة الصدور من القطاع لحماية السّلاح من القصف. قد يكون هذا الوصف مبالغًا فيه، ولكنّه حقيقيّ إلى حدٍّ ما. وبعد ذلك، يصبح نزع السلاح خيارًا تفاوضيًا قد يقود إلى شيء في المقابل.
قبل عقود كاد عدد مكاتب تمثيل الجبهتين في دول العالم يقارب عدد مكاتب تمثيل منظمة التحرير. كان ذلك عندما تحوّلت تنظيمات الكفاح المسلّح الفلسطينيّة إلى جيوش لها علاقاتها الخارجيّة ومكاتب تمثيلها، وترتّبت عليها مسؤوليّات هذه العلاقات ومكاتب التمثيل، من الارتباطات بأجندات خارجيّة إلى انتظار الضوء الأحمر والأخضر والأصفر ولا أدري ماذا، إلى العمل المباشر وفقًا لأجندات خارجيّة. تكرّر حماس الأخطاء ذاتها، تكرِّرُ حتّى بدايات الانحراف إلى أخطاء أخرى، كالبدء بالتفاوض أو التلويح به ومخاطبة المجتمع الإسرائيليّ وغيرها من الأساليب التي انتهجها ياسر عرفات ومنظمة التحرير قبل توقيع أوسلو بسنوات.
تكرّر حماس الأخطاء ذاتها، تكرِّرُ حتّى بدايات الانحراف إلى أخطاء أخرى، كالبدء بالتفاوض أو التلويح به ومخاطبة المجتمع الإسرائيليّ
الكفاح المسلّح شيء، والمقاومة شيء آخر. في أدبيّات حركة حماس وفي تاريخها حتى اللحظة الحاضرة، عنت المقاومة العمل المنظّم المسلّح عبر كتائب عزّ الدين القسّام؛ ذلك العمل لم يمتدّ يومًا حتى يكون عملاً جماهيريًا مقاومًا، فالناس في أدبيّات الحركة وتاريخها، مكانهم في ساحات الانتظار، في المهرجانات، وبالطّبع، في صناديق الاقتراع. أمّا الكفاح المسلّح، وثقافة الكفاح المسلّح فهما شيء آخر، شيء جماهيريّ، منظّم أجل، ولكنّه جماهيريّ بالأساس، يهدف إلى خلق حالة شعبية من المقاومة غير الخاضعة لأيّ مسؤوليّات حكوميّة أو خارجيّة أو أجندات خارجيّة؛ من شأنه خلق حالة من الضغط اليوميّ على العدوّ تجبره على التراجع، على الخضوع، على أيّ شيء غير هذا الذي يحدث في قطاع غزّة. وقد تحقّقت هذه الحالة قبل عام 2005، أي عندما كانت المقاومة في القطاع وكذلك المقاومة في الضفّة الغربيّة حالة شعبيّة، دفعت إلى إخلاء المستوطنات في القطاع من جهة، ولم تكد تقارب هذه الغاية في الضفّة الغربيّة لعوامل مختلفة أهمُّها التعاون الأمنيّ بين أجهزة السلطة والاحتلال في القضاء على الكتائب وتصفيتها.
اقرأ/ي أيضًا: في النسيان.. الذاكرة والجسد
الأمر ذاته كان في جنوب لبنان قبل عام 2000، أي عندما كانت المقاومة الوطنية والإسلاميّة في الجنوب في اشتباك مباشر يوميّ مع الاحتلال الصهيوني ولا تتوقّف عن إطلاق الصواريخ باتجاه مستوطناته والشمال المحتلّ؛ أدّى ذلك إلى الانسحاب، وأدّى أيضًا إلى تغيُّر في استراتيجيّة إسرائيل في التعامل مع القطاع والجنوب على حدّ السواء، ومع منظّمات مسلّحة كحزب الله وحركة حماس. في الجنوب وبعد انتهاء حرب عام 2006، خَلَقت كلٌ من إسرائيل وحزب الله حالة ردع مشابهة لتلك في قطاع غزّة، صاروخ يعني الحرب، والحرب مكلفة، وللحزب ارتباطاته التي تطوّرت مع الوقت وإملاءات خارجيّة، فبعد أن كان حالة كفاح مسلّح شعبيّة غير خاضعة لإملاءات طهران وارتباطاته مع النظام السوريّ، صار أخيرًا، إلى ميليشيا في خدمة طهران والنظام السوريّ في سوريا.
وهنا من الضروريّ التنويه أنّي لا أعقد المقارنة بين حزب الله وحماس، فالأخيرة على الأقل لم تسقط في اختبار الشعوب، الذي كان سقوط حزب الله فيه مدويًا وبشعًا. رغم أنّ حماس نفسها تخبّطت في الموضوع السوريّ، وتخبّطت في مواضيع أخرى كثيرة، وكان سبب هذا التخبُّط الأساسيّ، هو الارتباطات الخارجيّة وضرورة الحفاظ على الدعم الإيرانيّ والسوريّ للمقاومة في القطاع.
أخيرًا، على حماس أن تقرّ، داخليًا على الأقلّ، بفشل نهج المقاومة العسكريّة وفقًا لمنطقها الحاليّ، وإعادة تقييم للسنوات ما بين عام 2005 و2018. فالمنطق أن تكون المقاومة وسيلة ضغط، لا أن تكون مصدرًا للضغط ذاته على القطاع، وهذا هو الحال جرّاء السياسات الصهيونيّة في العزل وطبعًا، تعاون النظام العربيّ مع هذه السياسات، كالنّظام المصريّ، والنظام السعوديّ والإماراتيّ.
وربّما يكون من شأن مراجعة كهذه، بدلاً من الهرب إلى الأمام باتّجاه صراع عبثي مع سلطة رام الله التي لها أجنداتها المختلفة التي لا شأن لها بالقطاع سوى الحلُمُ باستعادته، ربّما يكون من شأن مراجعة كهذه التوصّل إلى استراتيجيّة مقاومة غير تلك التي تدفع فقط بعشرات الآلاف من البشر باتّجاه الموت دون أيّ تقدّم يذكر.
اقرأ/ي أيضًا:
إسرائيل تستخدم دعاية رخيصة وفعالة عالميًا