عبثاً يحاولُ الفلسطينيّ العودة إلى مكانه و"ممكنات" هذا المكان المنقرض، الضائع. من يرقصون على طول الحدود بين غزّة والأرض المحتلّة، ليسوا أجسادًا وحسب، بَل هُم شظايا الهويّة المنسلخة عن مكانهِا وممكناتهِ منذُ سبعين عامًا، وقد تبدَّلت الأمكنة من "البيت" إلى "المخيم"، إذ أصبَحَ المخيّم هو البين بحدِّ ذاته، أي الفُراقُ، عن "البيت"، حيثُ يكون اللاجئ ليس لاجئًا وحسب، بَل هُو دائمُ اللجوءِ والتخيُّل عن المكان الأوَّل، المنقرض، وممكنات هذا المكان.
"مخيم العودة".. أن تحمل أشياءك وكلماتك، وتعود مرةً أخرى إلى ما قبل النفي، أن تجدَ مكانك الصحيح في "نظام الأشياء والكلمات"
وكما يكتبُ حسين البرغوثي عن الهوية: "والهوية مساحة مكانيّة ذهنيّة من الثبات والرسوخ والقوة من "التمكن" و"الإمكانيات" أي "مكانة وجوديّة"، والمكان المنقرض ليس مكانًا بسيطًا: إنّه إناء هويّة تفقد "مكانتها" ممكناتها، تمكّنها، رسوخها، ثباتها في "نظام الأشياء والكلمات". "كذلك، نرى الهويّة تحاولُ التشبُّث بخطٍ زمنيٍ واضح، لا ينفِيهِ منفى أو ملجأ، تعودُ إلى إلى أوَّلها، ولكن "لا أحدَ يعودُ إلى أوَّله ولو لمامًا".
يحاكون في "مخيّم العودة"، حالةَ ما قبل النفي، ما قبل التهجير القسريّ. يدبكون، يشربون قهوة عربيّة، تخبز النساء الطابون على عادة أهل قرى البلاد، يلبسون ثيابهم، يغنّون غناءهم، أو ما تبقى لَهم من ذاكرة الغناء القصيرة الشفويّة. هذه كلِّها ممارساتُ الناس في البلاد، إذ لا يمكن "فهم الأمكنة بالاستقلال عن ممارسة الناس"، كما يكتبُ البرغوثي في مكان آخر.
وهكذا نفهمُ الأمكنة المنقرضة في المخيّلة الجمعيّة، من خلال ممارساتِ وطقوسِ تخليدها وإعادة إحيائها؛ بكلماتٍ أخرى، قد يصحُّ القَول أنَّنا نتذكّر أنفسنا قبل سبعين عامًا من الآن، كمجموعة من الرعيانِ دائمي الغناء، الذين يرعون في الجبال وتخبزُ نساؤهم الطابون في البَيتِ ويعملن في الحقول. هي ذاكرة مشوّهة بالطّبع، وهي ممارسات ثقافية، أي "حالة وجوديّة مكانيّة"، لا يمكن فهمها بمعزلٍ عن سبعين عامًا من الانسلاخِ عن واقعِ المكان، وكلّ ما تبقى منهم فتات ذاكرة، لا يكادُ يستطيعُ محاكاة يومٍ واحدٍ من حياتنا العاديّة كبشرٍ عاديين، قبل أن نمسخ أنفسنا ويمسخنا العالم إلى جماعة من الغنائيين الرعويين أبناء الشياطين.
هل نحن ثابتون في "نظام الأشياء والكلمات"؟
"مخيم العودة"، المخيّم كحالة مكانية، العودة كممارسة متخيّلة. أن تحمل أشياءك وكلماتك، وتعود مرةً أخرى إلى ما قبل النفي، أن تجدَ مكانك الصحيح في "نظام الأشياء والكلمات"، وأن تجد مكانك المنقرض، وتطفئ الذاكرة المتخيّلة ليحلّ محلّها المكان بمعنى البيت. أمّا نحنُ ففي حال من التشظِّي، على طول الحدود، يكادون يلامسون الحلم والرؤيا بالعودة حينما يقطعون السياج الفاصل، ثمّ يعودون مرةً أخرى في أقلّ من لحظات كافية للحلم إلى ما وراء السياج. حالة أشبه باليقظة والحلم. يعجزُ العقلُ أي عقل، سوى العقل الكلِّي عن إدراكها.
يحاكون في "مخيّم العودة"، حالةَ ما قبل النفي، ما قبل التهجير القسريّ. يدبكون، يشربون قهوة عربيّة، تخبز النساء الطابون، يلبسون ثيابهم، يغنّون غناءهم، أو ما تبقى لَهم من ذاكرة الغناء
إن بإمكاننا الكتابة عن هذا كلّه، كحالة مجموعة من الناس تدقُّ جدران الخزّان وتحذِّرُ من انفجار عظيمٍ، بإمكاننا مقاربة الأمر مقاربات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة شتى. لكنّ الكثافة الرمزيّة في الممارسات المكانية التي تمارسُ في حيزٍ مكانيّ ضيق هو "الحدود" بضعة أمتار هنا وهناك، على مرمى من القناصة الإسرائيليين، والكاميرات تصوّر الدم المسفوك ليل نهار، وتصوِّر ممارسات الواقعيّة السحريّة في اجتذابِ الجنون من كلِّ صوبٍ من أصقاع الذاكرة الفلسطينيّة لإقامة ما يُشبهُ طقوسَ العودة النهائية: غناء وناي، غناء وناي، غناء وناي.. هذا كلُّه يضعُ المقاربات العملية جانبًا، ويُحذِّرُ فعلًا في الآن ذاته، ممّن قد يخرجون من شبَحِ الدخانِ الأسوَدِ ويعيشون في كابوسيّة الواقع الإنسانيّ الساقط، ليصعدوا إلى حتفهم، باسمين أجل، ولكن متعذّبين ومتعبين.
إنّه التعب الإنساني بأفظع صوره على هيئةِ عبقريّة في الخيال. إنً أحدًا منّا قد لا يصدّقُ فعلًا العودة. قالت امرأة: "وما أدراك! قد يحدث.. قد يحدث!"، وهي بعيدةٌ كلّ هذا البعد عن ذلك المكان القصيّ من الأرض المسماة ـقطاع غزّة. "قد يحدث.. قد يحدث.."، الصُّورة تصارعُ العادة البليدة على خيبة الأملِ وجلدِ الذاتِ والإدراك اليقينيّ للعجز المتأصِّل فينا.
تمزيق اليوتوبيا الفلسطينيّة والإسرائيليّة على حدِّ السواء
خلال السنوات العشر الأخيرة، كان هناك حلمٌ يتبلور، يوتوبيا فلسطينيّة عن الدولة الآخذة بالنموِّ بتشوُّهاتها وضعفها، وعن اقترابِ لحظة النِّهاية في العقل الإسرائيلي، تلك اللحظة التي قد تكونُ نهاية إسرائيل نفسها أو نهاية الحلم الفلسطينيّ نفسه وانتصار اليوتوبيا الإسرائيلية. لم يتصوَّر أحد من مؤسسي إسرائيل قبل سبعين عامًا، أنّ سحابة دخان سوداء عظيمة ستخرجُ من الجنوب في العام السبعين لتأسيس "إسرائيل"، خلفها يقف عشرات الآلافِ من الفلسطينيين الذين عادوا وأقاموا الخيام نفسها التي أقامها اللاجئون الأوائل.. إنّ هذه السحابة تمزِّقُ الحلمين الإسرائيليّ والفلسطينيّ عن النهاية القريبة.
غزة لا تعلنُ عن نفسها وحسب، لا تعلنُ عن جوعها وعطشها والعتمة الساكنة فيها، بل تصوِّرُ لنا مشهدًا كابوسيًا نراهُ ونتغافلُ عنه، وربمّا لا نراه، ولا نرغبُ برؤيته أبدًا
غزة لا تعلنُ عن نفسها وحسب، لا تعلنُ عن جوعها وعطشها والعتمة الساكن فيها، بل تصوِّرُ لنا مشهدًا كابوسيًا نراهُ ونتغافلُ عنه، وربمّا لا نراه، ولا نرغبُ برؤيته أبدًا. إنه المشهد، أيّ مشهد، في أيّ شارعٍ من شوارع هذي البلاد، في الأرضِ المحتلّة عام 48 أم في الأرض المحتلّة عام 67. إن الشوارع تحكي كما تحكي وجوه أهل ساكني هذي البلاد، حكاية إنسانية ساقطة، لن ينفع البكاء عليها، وأهلُ غزّة كما هم دائمًا، يتصدَّرون مشهدَ التعاسة الإنسانية في هذي البلاد، ولكن هذه المرّة، يحاولون ألّا يريقوا دماء كثيرة، وفي محاولتهم هذه يحاولون أن يعيدوا تشكيل الذاكرة الفلسطينيّة من جديد ومن خلالها إعادة تشكيل ذاكرة العالم عن هؤلاء الذين لا يلتفتُ أحدٌ إليهم إلا عندما تراق دماؤهم.
في النهاية، يبدو أنّ غزّة تقودُنا جميعًا إلى التأمّل الشديد الهدوء فِي نهاية محتّمة وربما قريبة. إنّ أحدًا لا يدركُ ما الذي قد يتمُّ فعلهُ في غزة، فحلُّ الأزمة لم يكن جزءًا من السياسة الصهيونية في الأرض المحتلة، بل "إدارة الأزمة" هي الكلمة المفضّلة في الأجندة السياسية الصهيونية. لكنّ أزمة غزّة ما عادت أزمة من الممكن إدارتها، بل هي توشك على الانفجار، لأنّ الأزمة ليست أزمة وقود وحسب، بل أزمة في حلُمَين متناقضَين: حلمُ الاستعمار بإبادة الأفاعي العربيّة، وحلمُ الأصلانيّ بعودة الفلسطيني من المنفى. تلك أزمة لا يمكن إدارتها.
اقرأ/ي أيضًا: