03-مارس-2017

صورة تعبيريّة/ getty

"في تونس عندما نعرف أنّ هذا الشخص فلسطيني تتغيّر طريقة معاملتنا معه تمامًا! الفلسطينيون شيءٌ مختلف بالنسبة لنا، كائنات مقدّسة لا نملك إلا أنّ نُحبّهم"، هكذا وصفت صديقة تونسيّة مكانة الفلسطينيين في قلوب التونسيين.

في الدول التي لم تحمل العبء الفلسطيني بشكله الحقيقيّ ظلّ الفلسطينيون كما وصفتهم صديقتي "كائنات مقدسة" مثل أبطال القصص التاريخية الذين نسمع عن بطولتهم وشجاعتهم رغم الألم والمعاناة، فنمجّدهم ونحبهم دون أن نلتقي بهم. في تونس، المغرب والجزائر على سبيل المثال حصل هذا، وظلّ التعامل الخاص مع كل ما هو فلسطيني حاضرًا.

لعلّ من أبرز أضرار الوجع، أن يحوّله الإنسان إلى حالة تعريفية؛ أي أن يصبح الوجع جزءًا من المعلومات أو البيانات التي يقدّم فيها نفسه للآخرين

والحال ليس ذاته في (الأردن، لبنان، سوريا، مصر وبعض دول الخليج)، فاللغة التي يتحدث الناس بها عن الفلسطينيين مختلفة؛ ليس لأنهم يكرهونهم. فالموضوع لا علاقة له بالحب هُنا. بل بالمشاركة الفعلية في الحياة التي تُلغي وجود الكائنات المقدسة والأبطال الذين لم يخدشهم الخطأ يومًا، في مجموعة الدول الأخيرة شارك الفلسطينيون سكان البلاد الأصليين المكان وفرص العمل وحصل بينهم الحب والزواج والأطفال الذين يُعرّفون على أنفسهم بجنسيتين. بات الفلسطينيون جزءًا من المجتمع بـ "حلوه ومرّه"، فأيهما أفضل للفلسطينيين أن يكونوا كائنات مقدسة، أم بشرًا عاديين قد نُحبهم وقد لا نحبهم، حسب ما نراه منهم؟

لعلّ من أبرز أضرار الوجع التي قد يمر بها الإنسان - غير أنه موجع طبعًا- هي تحويل الوجع إلى حالة تعريفية عن الشخص أو الجماعة. أي أن يصبح الوجع جزءًا من المعلومات أو البيانات التي يقدّم فيها الشخص نفسه للآخرين، عندها ستتفاقم مشاكل هذا الوجع من كونه أمرًا غير طبيعي يجب إزالته ومحاسبة المتسبب به، إلى كونه صفة شخصية تُخلّف في نفس صاحبها تبعات قد لا تكون لطيفة، فهو يتوقع أن يعامله الآخرون بطريقة معيّنة نظرًا لأنه موجوع، بينما هم خالين من هذا الوجع ويعيشون حياة طبيعية. سيصبح واجبهم العاطفي اتجاهه واسعًا وفضفاضًا. وما يحصل هنا أن يصاب الإنسان بحالة من الغرور التي تجعله يشعر أنه أفضل من غيره بسبب وجعه الذي تخلو حياتهم منه.

الربيع العربي وزّع الألم جيّدًا على الشعوب التي حلّ عليها، فمنذ أن ثار التونسيون وتبعهم المصريون والليبيون ثم البحرينيون واليمنيون لم يعد الألم الفلسطيني هو مركز حديث العرب واهتمامهم، بل إن القصص اليوميّة لحياة السوريين وموتهم، باتت هي الموضوع الأساسي الذي يلتف حوله العرب ليحزنوا على الموتى أو يشتموا العالم المتخاذل أمام موتهم، أو ليتصارعوا فيما بينهم في تحميل مسؤولية كل هذا الموت لمن.

لم تعد القضية الفلسطينية تتفرّد بأجندات قمم جامعة الدول العربية أو جلسات منظمة المؤتمر الإسلامي. وكان فشل هذه الاجتماعات وعدم جدواها مفيدًا للفلسطينيين، وكان بمثابة هالة إضافية من التعاطف يضعها الشارع العربي حول الفلسطينيين، فهذه الاجتماعات ما هي إلّا مواسم لتذكير الشعوب بفشل من يحكمهم، وتقاعس رجال السياسية وضعفهم. وأمام خطب الرؤساء والملوك العرب المكررة التي تشجب وتستنكر دائمًا، فقد كان شعور الشارع العربي بالواجب اتجاه الفلسطينيين يتنامى حتى لو كان هذا الواجب هو تقديم المزيد من الحب، وإظهار الكثير من التبجيل والاحترام والمديح لهذا الشعب الذي لا يجد من يسند ظهره في حربه الطويلة القاسية.

وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في توسيع رقعة الألم ونشر مشاهد الموت واللجوء والجوع، وباتت مقاطع الفيديو والصور المنشورة مصدرًا تعتمد عليه القنوات الإخبارية لتوثيق أخبارها. علّم هذا الانتشار الفلسطينيين الكثير، علّمهم أنهم جزء صغير من العالم، وأنّ الوجع الذي يعانون منه، يعاني منه آخرون، وأنّ لكل بلاد مشاكلها ولكل شعب أوجاعه.

لقد خسر الفلسطينيون الاهتمام الذي اعتادوه، وإن كان التهميش الذي تعانيه القضية الفلسطينية بحكم تزاحم الأحداث الدامية والأزمات الإقليميّة، له أضراره ومخاطره السياسية، فإنّه ربما يكون مفيدًا على المستوى الشخصي لكل فلسطيني، فقد يساعدهم ذلك في الخروج من أنفسهم قليلًا. فبدل أن يجد الفلسطينيون أنفسهم من خلال معاناتهم التي حولوها من حالة وجع إلى حالة راحة تفتح لهم الأبواب المغلقة، انتقلوا من التعامل مع الوجع بوصفه حالة يحاربونها ويسعون إلى التخلص منها، إلى شيء يتباهون به. وعليهم الآن أن يبحثوا عن طرق جديدة وجديّة ليعبّروا عن أنفسهم وعن قضيتهم.. طرق غير مجانيّة تفتح لهم الأبواب المغلقة، لأنهم يستحقون ذلك. وليس لأنهم فلسطينيون فقط.

أعلم أنه يبدو قاسيًا أن تتهم الموجوع بأنه مهووس بوجعه، أو أن تطلب من الناس أن تُظهر له الحب بشكل أقلّ أو بشكل مختلف حتى لا يصاب بالغرور. وبينما يبدو الدعم المعنوي أخر ما تبقى للفلسطينيين ليشد من عزمهم فإن هذا الدعم المعنويّ اللطيف الطيّب قد يُساء فهمه والتعامل معه، وقد يحوّل صاحبه إلى شخص مهووس بجنسيته وتاريخه ومعاناته، وماذا يمكن لشخص مهووس بنفسه أن يفعل سوى الحديث عن نفسه وانتظار تصفيق الآخرين وحبهم ودعمهم دائمًا!

 

اقرأ/ي أيضًا:

المقهى.. من الشّعبي إلى الطبقي

"سينما فلسطين".. حضرت إسرائيل وغاب الهنديّ الأحمر

سلامٌ وطنيٌ جديد!

دلالات: