05-يناير-2021

صورة أرشيفية - gettyimages

مقال رأي |

دومًا ما كنت مهتمًا بمراقبة القرى والبلدات والأحياء التي لم تمتثل لأوامر الجهات الرسمية الفلسطينية المتعلق بالوضع الوبائي والصحي في فلسطين، ذلك الاهتمام اختلف ما بين فترة وأخرى، وتزايد مع مرور الشهور على امتداد العام المنصرم.

كانت هناك نقمة كبيرة على هؤلاء، ولهذه النقمة، بطبيعة الحال، ما يبررها في أوقات الهلع الذي فرضه الوباء

المتابعة الأولية كان هدفها التعرف على هؤلاء المواطنين الذين "يضربون صحتنا وحياتنا بعرض الحائط"!، من هم؟ ولماذا يفعلون ذلك؟ وما هي دوافعهم؟ وما طبيعة مواقفهم السياسية؟ وما هي مستوياتهم العلمية؟ وما هو توزيعهم الجغرافي وأماكن عيشهم؟ وما طبيعة علاقة هؤلاء بالنظام السياسي نفسه؟ وما هي المناطق التي أصبحت تحذوا حذوهم؟... الخ من الأسئلة التي فرضت نفسها على المتابع.

اقرأ/ي أيضًا: شبهات "تجاوز" لإجراءات الوقاية من كورونا في المستشفيات

كانت هناك نقمة كبيرة على هؤلاء، ولهذه النقمة، بطبيعة الحال، ما يبررها في لحظات الخوف وأوقات الهلع والرعب الذي فرضه الوباء وسياسات الأنظمة السياسية والصحية.

لاحقًا تطور الاهتمام ليكون بهدف معرفة تأثير وسائل الإعلام على هؤلاء الأشخاص وتلك المناطق التي يعيشون فيها، وتحديدًا مع تنامي فكرة عدم قدرة هذه الوسائل فلسطينيًا وعربيًا وعالميًا على التأثير في سلوك هؤلاء المواطنين. فالضخ الإعلامي المحلي والمعولم حول الجائحة وتداعياتها كان من كل حدب وصوب لكن من دون تأثير.

تزايد هذا الاهتمام في ظل إيماني بمسلمة تقول أنه في الأزمات يتضاعف استهلاك الناس لعموم وسائل الإعلام، وهذه الوسائل تقدم المعرفة والمعلومات عن هذا الوباء، لكن سلوك الناس "الممانع"، إن جاز لي القول، لم يتغير.

الإعلام الفلسطيني لم يكن بحال جيدة قبل الأزمة، وبالتالي لن يكون بحال جيدة أثناء الأزمة

محاولة فهم ذلك كان يتطلب مراجعة سريعة للنظريات الإعلامية القديمة والحديثة التي تحاول أن تفسر كيف يمكن أن يحدث التغيير في سلوك الأفراد والجماعات. في هذه المرحلة انصب السؤال بالنسبة لي حول ضعف الإعلام الفلسطيني، وهذا أمرٌ لا مجال للشك فيه، فهو إعلام لم يكن بحال جيدة قبل الأزمة، وبالتالي لن يكون بحال جيدة أثناء الأزمة، فكيف يمكن إحداث تغير اجتماعي في موضوعات راسخة وعتيدة مرتبطة بممارسات المواطنين الاجتماعية واليومية؟

اقرأ/ي أيضًا: "إذا بقول اللي ببالي بنحبس"!!

كنت أفكر بذلك مستحضرًا معرفتي أن التغيير الاجتماعي يتطلب وقتًا أطول، كون الأمر يحتاج إلى تغير في "الصورة العقلية" أولاً، وصولاً إلى تغير في سلوك الأفراد والجماعات.

ومن أجل المزيد من الفهم كنا بحاجة لأبحاث ميدانية، لم ولن تحدث، كان يفترض أن تجعلنا نفهم تلك النتيجة المتمثلة في عدم خضوع أفراد ومناطق "لسلطة النظام السياسي" و"لسلطة الإعلام" أيضًا، لا سيما أن كمية الشحن والتخويف والتحذير كانت كافية أكثر مما يمكن أن يحتمله عقل.

لاحقًا بدا لي أن عدم تأثير سلطة الإعلام على قطاعات عريضة من الجماهير فكرة ملهمة، فليس كل ما تقوله هذه الوسائل -التي تتسلط علينا بإرادة كاملة منا- صحيحًا أو منطقيًا أو محايدًا. وبدا في ذلك خير كثير.

طيب، ماذا عن "سلطة النظام السياسي الفلسطيني"؟ هل يمكن أن يكون عدم رغبة البعض بالانصياع لروايات الهلع والخوف الصادرة عنها تعبيرًا عن رفضها والوعي بضرورة الوقوف سدًا منيعًا أمام تضخم سيطرتها على حياتنا اليومية؟

يرى الفيلسوف أغامبين أن السلطات تستخدم الظروف الاستثنائية "لحيازة السلطة المطلقة"

عالميًا، كتب مفكرون وكتابٌ كثر حول الأنظمة السياسية وإجراءات مجابهة الوباء، خذ مثالاً على ذلك الفيلسوف الألماني ماركوس غابريال الذي بدا أشد "التخوف من تضخم آليات التحكم والمراقبة الرقمية بالعباد أكثر من أي وقت مضى"، فهذه الإجراءات تهدد بمسخ الديمقراطية نفسها لتصبح "فيروس قراطية" مقرونة بتسلطية رقمية. سلافوي جيجك الفيسلوف البوسني مثلاً توقع أن تجلب الطوارئ المرتبطة بالجائحة "حالة استبدادية جديدة. حيث المخاوف تتنامى من استغلال الوباء بقسوة لفرض شكل جديد من الحكم".

اقرأ/ي أيضًا: 7 إجابات رئيسة حول فعالية لقاح كورونا وخطورته

أيضًا الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين رأى أن إجراءات الطوارئ في سياق مكافحة كورونا غير عقلانية وغير مبررة، معتبرًا أن تلك الحالة تؤدي لفرض "عسكرة حقيقية". رافضًا القبول بتقييد الحكومات للحرية تحت دعاوى السلامة. ويرى الفيلسوف أغامبين أن السلطات تستخدم الظروف الاستثنائية "لحيازة السلطة المطلقة".

هذه الرؤى الفلسفية المليئة بالمخاوف جاءت من دول ديمقراطية، وعكست ميدانًا ومواقف جماعات وفئات ترفض سيطرة الحكومات الغربية على المواطنين بادعاء حمايتهم. فأين نحن من هذا الأمر؟ هل يمكن أن نرد سلوك الممانعين إلى هذا الموقف الفكري الأصيل؟

هذا الوباء تجاوز أن يقوم النظام السياسي بفرض سيطرته وتحكمه في حياة المواطنين، فذلك أمر يجري يوميًا قبل الوباء وأثناءه، وسيستمر بعده

من وجهة نظري فإن غالبية حالات "الممانعة" في السياق الفلسطيني لم تقم على أي أرضية مماثلة، وهذا أمر يستحق الدرس، في ظل أننا نعيش بجانب نظام يعشق حالة الطوارئ، فيما كانت الأصوات المعارضة لها تعد على الأصابع أمام وجاهة موقفها القانوني، ولو كان الأمر معاكسًا، لماذا لم يتكون تيارٌ أو مبادرة أو حراكٌ يعبر عن هذا الموقف الذي يرفض السيطرة والتحكم.

في فلسطين المحتلة هناك دومًا استثمار سياسي للأزمات، والوباء ليس استثناءً، فهذا الوباء تجاوز أن يقوم النظام السياسي بفرض سيطرته وتحكمه في حياة المواطنين، فذلك أمر يجري يوميًا قبل الوباء وأثناءه، وسيستمر بعده أيضًا، لكن ما نتوقعه أن يكون أكثر تغولاً ووحشية، فمنطق السلطة وفلسفتها يقولان ذلك أمام حالة الخنوع والاستسلام.

على الجانب الآخر، حاول النظام السياسي استغلال الجائحة لتكون مصدرًا لتجديد شرعيته المفقودة أيضًا. وهذا حدث فعليًا في فلسطين طوال العام الفائت من دون أن يقابله رأي مضاد.

حاول النظام السياسي استغلال الجائحة لتكون مصدرًا لتجديد شرعيته المفقودة أيضًا

سيذهب الوباء أو نعتاده، لكن ستبقى هناك سلطة تحاول أن تتحكم بسلوك البشر بادعاءاتٍ كثيرة، الصحة أحدها، وفي الخلفية كان النظام يعيد سيطرته وتحكمه بحياة الأفراد. فيما يخبرنا العام الماضي أن ممارسات كثيرة معاندة لإجراءات النظام السياسي لم تنطلق من رؤى تمجد أو تحتفي بما نتوق له.

إنهما خسارتين معًا. فيما نقمتي التي كانت بحق الممانعين فقد ذهبت لمن يستحقها أيضًا.


اقرأ/ي أيضًا: 

الكارنتينا: تاريخ الحجر الصحي في فلسطين