30-يونيو-2017

صورة تعبيريّة/ getty

كان الهوس بتقزيم الآخر، أيّا كان، جزءًا من ثقافتنا: فتح تقزّم الشعبية، الشعبية تقزّم الديمقراطية، الديمقراطية تقزّم الحزب الشيوعي، الحزب الشيوعي يقزّم النظام الأردني، النظام الأردني يقزّم أهل الضفة، أهل الضفّة يقزّمون أهل غزة. والأستاذ الياس يقزّم قطر. كنا جميعا ندور وفي أيدينا عدسات مصغِّرة وننظر بها إلى العالم فرحين بلعبتنا. إلى أن جاء السجن.

​الهوس بتقزيم الآخر، كان جزءًا من ثقافتنا، كُنّا جميعا ندور وفي أيدينا عدسات مصغِّرة وننظر بها إلى العالم فرحين بلعبتنا. إلى أن جاء السجن

حالة من الهوس الجماعي كانت تصيب المعتقلين، في فترات تطول أو تقصر، يبدأ الجميع بالشّك بالجميع بشبهة العمالة. وفيما بعد، سمّى أحد المعتقلين الولد باسمه، وأطلق على الظاهرة اسم "الهوس الأمني" لتقزيمها.

اقرأ/ي أيضًا: نادر العفوري.. الجنون حين يُصبح خلاصًا

بلغ من شدّة "الهوس الأمني" في باحة السجن أنّ البعض كانوا يأنفون عن هرش المنطقة التي ما بين ساقيهم، خوفًا من أن يظن الآخرون أنّها إشارة إلى السجّان الذي على البرج، الذي، حين يلتقطها، يبلغ المخابرات بوجود معلومات جديدة لدى "العصفور"/ (عميل يُجنّده الاحتلال، ويضعه بين الأسرى لانتزاع اعترافاتهم). حدث هذا وقت إصابة السجن بأسره بالجرب.. كانوا يطلقون على المرض اسمًا غريبًا هو "الغاريدت" (الحكاك، محرّفًا من العبرية إلى العربية).

لم يكن هنالك ما يكفي من كلاسين. عليك أن تغسل سروالك الداخلي بماء بارد وفلقة صابون وتعلّقه في غرفة الحمّام. حيث الظل، حيث الرطوبة دائمة بفعل حضور الماء، والاستحمام الدائم للمعتقلين. تصطف الكلاسين إلى جانب بعضها البعض، فتنتقل الفطريات والمجهريات من قماش سروال إلى آخر، وتسود حفلة حكاك جماعي في الغرف. لا يطفئها سوى الماء الساخن ومكعب ضخم وثقيل من صابون الصودا المخصص لغسيل الملابس (ومجددًا: تهرش خصيتيك بمتعة مدمن حتى تدميان بفلقة الصودا الكاوية، تتركها على شبّاك الحمّام، تغسل بها كلسونك، يأتي سجين آخر فيهرش خصيته فيها حتى الادماء، ثم يغسل كلسونه. وفطريات/ جراثيم ذلك الشيء الذي اسمه ”غاريدِت“ تنتقل بسعادة من خصية إلى أخرى، وتتكاثر، وتنتشر.

اقرأ/ي أيضًا: طحين الأسرى وابتساماتهم

كان كافيًا إطلاق إشاعة عن وجود شبكة "عصافير" في السجن لكي تبدأ حفلة العذاب الجماعي هذه. كان الأمر يعني انهيارًا على كل الصعد. فمعنى أن يُشتبه فيك بالعمالة هو أن تتم مقاطعتك، أن يبدأ الآخرون (المرعوبون من التحول إلى ضحايا) بالهمس من وراء ظهرك. وهكذا، حصلت حالات انهيارات لدى الكثير من الأشبال، قرروا أنّه ما من فائدة من إنكار عمالتهم، فأصبحوا عملاء.

إطلاق إشاعة وجود "عصافير" في السجن كافية لبدء حفلة عذاب جماعي. كان الأمر يعني انهيارًا على كل الصعد. فتتم مقاطعتك، ويبدأ الآخرون بالهمس من وراء ظهرك

أذكر بالتحديد شابّا عاش مدى ثلاثة أعوام في غرف "الشعبية" اكتشف التنظيم أنّه عميل. وكان هذا العميل قد اعترف بعدة تهم خطيرة منها أنّه قد دخن الحشيش، وأنه قد مارس الجنس، أنتم تعرفون: جميع الأمور التي بإمكانها أن تؤخر الثورة وتمنح الأعداء شبرًا إضافيًا في المسجد الأقصى وهكذا.

كل قيادة جديدة تحلّ على الغرفة، متمثلة سجين جديد متحمّس لخوض التجربة الاعتقالية بكل حذافيرها ليحكي بعد الإفراج عنه عن مغامراته العجائبية للأصدقاء، كان يقوم، بحجّة اكتشاف معلومات جديدة، بالتحقيق مع (أ).

كان (أ). يُحقق معه بذات الطرق اللطيفة: شوكة كهربائية، صابون ذائب، ضرب. لكن الأكثر أذىً كان الحياة ما بعد التحقيق. أن تخرُج إلى الساحة بعيون زرقاء. أن تعتذر عن الخروج للالتقاء بأهلك خوفًا من أن ترى أمّك الكدمات، أن تخسر حصّتك في توزيع حلوى العيد، لأي سبب من الأسباب، أن تستدعيك المخابرات محاولة إقناعك بالخروج من القسم الأمنيّ إلى قسم السجناء المحميين. أن يُفتش في دفاترك وحقيبتك أمامك، أن تُعاقب بالجلد بالعصي لأنك، مثلًا، لم تعرف ما هو الفرق بين البروليتاريا والرز بلبن (محاضر قدير كان قد أقنع الغرفة بأسرها أن المجتمع الفلسطيني ينقسم إلى: بروليتاريا، برجوازية صغيرة -أصحاب البسطات-، برجوازية متوسطة -أصحاب الدكاكين- وبرجوازية كبيرة- أصحاب المصانع-، وهؤلاء، الأخيرين، هم خطر داهم على الثورة).

كنّا نستمتع بإظهار ولائنا للوطن بالاستماع إليه في الأحاديث اليومية، ومن ثم السخرية منه فيما بيننا. كُنّا نستمتع، مثلًا، برشّ الفلفل الأسود في كوب قهوته كل صباح، وكان يزدرد القهوة بأوداج منتفخة، وهو يجرّب إقناع نفسه أنّه يشرب قهوة مع أصدقاء سيقضي معهم ما تبقى من ثلاثة أعوام، فيخرج سيجارته ليدخنها مع القهوة، ويكتشف أن الصابون بقدرة قادر قد وجد طريقه إلى داخل العلبة أثناء الليل.

تمّ تهجيرنا بالجملة من سجن الأشبال إلى سجن فيه "رفيق" واع من غزة، اسمه أشرف أبو حسين. أبو حسين هذا اعتقل وعمره سبعة عشر عامًا، أظن أنّه قام مع صديقه بمحاصرة جنود إسرائيليين في أحد الأزقّة وأعملا فيهما ضربًا بالبلطات حتى تمكّنت الفرقة من السيطرة عليهما (كانا قد نقعا البلطات ليلة كاملة بسمّ الفئران، أنتم تعرفون: الخيال خصب في تلك المرحلة العمرية) قضى الرفيق أشرف في السجن ما قضى، ومرّ بالكثير، وحين انتقلنا وانتقل (أ) إلى سجن بئر السبع معنا، استلم أشرف، مسؤول التنظيم تقريرًا يؤكد عمالة (أ). وكُنّا مأخوذين بالتجربة التي سنشهدها: لا بدّ وأن الكبار سيعدمون هذا العميل.

اقرأ/ي أيضًا: عندما فرض الأسرى إنهاء القمع مقابل وقف "تشفير" الوجوه

ذات صبيحة، دخل أشرف إلى غرفتنا، وقال لنا بأن هنالك تعميمًا مُهمًا ينبغي أن يتلى علينا. تحلّقنا في حلقة، وأخرج أشرف التعميم مطويًا من جيبه. كانت العادة تجري أن يقوم المسؤول بقراءة التعميم المكتوب، إلّا أنّه قد قام بمدّ الورقة نحو (أ). قائلًا له: إقرأ يا رفيق. نظرنا إلى وجوه بعضنا. الفكرة التي سيطرت عليّ في تلك اللحظة هي أنّ (أ). سيقرأ بيان إعدامه. وشرع (أ) في القراءة:

"تحية الثورة وشرف الانتماء (..)، تحية العمالقة للعمالقة في زمن الأقزام. يا من تعملقتم في تعملق عملاقيّة عماليق عمولقة تعملق عملقان عمالقة عملقان عمالقتكم الأبرار".. (وهكذا دواليك)..

بدأت أصابع (أ) بالارتجاف. وعيناه تحمرّان. والدمع يسقط، بفعل الجاذبية الأرضية لا غير، لا بفعل إغماض الجفون، ولا بفعل المسح بالأصابع. الجاذبية الأرضية وحدها كانت تسحب تلك النقاط في المسار اللصيق بأنفه، نحو شفته العليا، ثم تقطر على قميصه. كانت شفته ترتجف أيضًا. تنشّغ، مدّ أشرف يده إلى كتفه، وقال له، "أعطي حدا تاني يكمّل قراية؟". لكن (أ) تشبّث بالورقة، هزّ رأسه وهزّ الورقة وأصر على مواصلة قراءتها، مسح مخاطه كلّه بذراعه، ثم مسح المخاط بالبنطال، وقحّ، ثم واصل القراءة "بعد التحقيق مع الرفيق (أ)... وبذا تعلن منظمة الجبهة الشعبية عن براءة الرفيق (أ) وتعتذر له باسم الرفاق عن التجاوزات الخطيرة التي ارتكبت بحقه".

عاد (أ) إلى شعب العمالقة فجأة. بعضنا لا يزال يعتريه الخجل حتى اليوم، وبعضنا يبكي حين يتذكر مشهد (أ) وهو يرتجف في صبيحة ذلك اليوم الصيفي، من أيار 1994.


اقرأ/ي أيضًا:      

"اثنين الأمهات"

"فصائل السلام".. فلسطينيون حاربوا ثورتهم!

الوداع الأخير: شهداء يحبسون دموعهم