مع اقتراب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من إتمام شهرها الثالث، نفذ جيش الاحتلال عملية الاغتيال الأكبر منذ بداية هذه الحرب، مستهدفًا صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وأحد المتهمين -إسرائيليًا- بالتخطيط لعملية طوفان الأقصى، في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله اللبناني، ليكون هذا الهجوم هو الأول من نوعه في الضاحية، والخرق الأكبر لقواعد الاشتباك، منذ الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله عام 2006.
لماذا صالح العاروري؟
الاغتيالات في العقيدة العسكرية الإسرائيلية في مواجهة الفصائل الفلسطينية، تنطلق من دوافع استراتيجية وتكتيكية، تهدف في المقام الأول من بين أمور أخرى إلى إلحاق الأذى البالغ بالبنى التحتية التنظيمية وتأخير تطورها، وحرمانها من الكثير من الخبرات العملياتية التي اكتسبها القائد المستهدف.
أخطر ما كان يراه منظرو الحرب في تل أبيب في صالح العاروي أنه صاحب كاريزما نادرة، فهو العقل الاستراتيجي الأول في حركة حماس، القادر على التفكير خارج الصندوق، ومنظرها العسكري وصاحب القدرات التنظيمية العالية والخبرات الطويلة
الشيخ صالح العاروري، كما كان يراه منظرو الحرب الإسرائيليين، شبيه إبرهيم المقادمة الذي تم اغتياله في الانتفاضة الثانية، من ناحية التفكير الاستراتيجي والتنظير العسكري وممارسة التعبئة الأيديولوجية وبناء الأجهزة التنظيمية، فكلا الرجلين، تميزا بمستوى عالٍ من الثقافة تجلت في مستوى متقدم من الخبرات التنظيمية في بناء المؤسسات التنظيمية في ظروف استثنائية غير مستقرة.
أخطر ما كان يراه منظرو الحرب في تل أبيب في صالح العاروي أنه صاحب كاريزما نادرة، فهو العقل الاستراتيجي الأول في حركة حماس، القادر على التفكير خارج الصندوق، ومنظرها العسكري وصاحب القدرات التنظيمية العالية والخبرات الطويلة، إلى جانب كونه من الجيل المؤسس للجهاز العسكري الأول لحماس في الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية، وكان ذلك انطلاقًا من الخليل، الخزان البشري الهائل لحركة حماس، ولذلك عند اعتقاله في تسعينات القرن الماضي، حرص الاحتلال على احتجازه في العزل بعيدًا عن الأسرى لأكثر من عقد كامل، بحجة امتلاكه قدرة هائلة على التأثير عليهم.
بعد إبعاده في عام 2010، استغل صالح العاروري خبراته ومهاراته وشبكة علاقاته الواسعة والمعقدة التي تمتد بين أجيال عديدة من الأسرى والنشطاء والمنتشرة على امتداد الضفة الغربية من شمالها لجنوبها في إعادة بناء حماس في الضفة الغربية.
تنسب أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى صالح العاروري وفريقه في الخارج من رفاق الأسر مسؤولية بلورة "نظرية وحدة الساحات" وتحديد أدوارها أيضًا، ومن ذلك تمويل الخلايا المسلحة وتجنيد نشطاء جدد في الضفة الغربية والقدس وداخل الخط الأخضر، لتنفيذ عمليات أو جمع معلومات، وإحدى هذه الخلايا التي تم الكشف عنها ضمت في صفوفها خبراء برمجة من فلسطيني الداخل عملوا في شركات اتصالات إسرائيلية وحصلوا منها على معلومات حساسة نقلوها لقادتهم في تركيا. ويعتقد الإسرائيليون أن لصالح العاروري دورٌ في تحديد أدوار الساحات، وهذا التوزيع للأدوار يقوم على التالي: أن يكون لغزة دور تقديم المظلة الصاروخية وتنفيذ الاقتحامات، وللضفة استهداف المستوطنات والمستوطنين في الشوارع الالتفافية، وأن يكون دور القدس والداخل جمع المعلومات في عمق الجبهة الداخلية، أما دور الخارج فهو تهريب السلاح إلى الضفة وغزة، وبناء جهاز عسكري في لبنان يملك قدرات صاروخية.
لماذا الآن؟
جاءت عملية اغتيال صالح العاروري بالتزامن مع أحاديث حول ترتيبات للانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب على قطاع غزة، التي تتسم بإيجاد مناطق عازلة وتقسيم القطاع، وشن عمليات هجومية مباغتة بهدف تنفيذ اغتيالات لقادة أو استعادة أسرى والقضاء على خلايا وتدمير قدرات عسكرية، بواسطة غارات أو نيران المدفعية او قوات كوماندوز. وكما جاء على لسان منظري الحرب الإسرائيليين فإن هذه المرحلة ستستمر طويلاً.
المعضلة الإسرائيلية في هذه الحالة تُكمن في إصرار حزب الله على تطبيق نظرية أن دوره في هذه الحرب يقوم على الإسناد الناري لجبهة على غزة على امتداد الحدود، وتأكيد نائب الأمين العام لحزب الله بأن جبهة الإسناد ستظل متواصلة ما دامت الحرب على غزة متواصلة بغض النظر عن مراحلها من وجهة نظر إسرائيل، وهذا يعني أن إجلاء عشرات آلاف المستوطنين من المستوطنات المحاذية للحدود مع لبنان سيتواصل إلى أمد طويل على نحو يضاعف الضغوط على متخذي القرار في إسرائيل من جانب هؤلاء المستوطنين.
على هذا الأساس، كثفت إسرائيل جهودها الدبلوماسية لثني حزب الله عن مواصلة "الإسناد"، وهذا كله يتزامن مع نشر وسائل الإعلام العبرية استطلاعات للرأي العام تؤكد أن أكثر من ثلثي الإسرائيليين يدعمون شن حربٍ على لبنان "لردع" حزب الله وإبعاده عن الحدود، وبذلك تكون المبادرة إلى تنفيذ عملية اغتيال في قلب الضاحية الجنوبية واستهداف شخصية محورية هي محاولةٌ لاستدراج حزب الله إلى مواجهة محدودة تنتهى بفصل الجبتهين تمهيدًا لاستمرار الحرب في قطاع غزة.
المبادرة إلى تنفيذ عملية اغتيال في قلب الضاحية الجنوبية واستهداف شخصية محورية هي محاولةٌ لاستدراج حزب الله إلى مواجهة محدودة تنتهى بفصل الجبتهين تمهيدًا لاستمرار الحرب في قطاع غزة
منذ بداية الحرب على غزة، كانت المقاربة المطروحة في عقول الاستراتيجيين الإسرائيليين هي تحقيق الحسم في غزة لتعزيز الردع في مواجهة لبنان، والإمعان في تدمير غزة وتحويلها إلى عبرة، ويبدو ذلك حاليًا بعيد المنال بفضل معطيات الواقع على الجبهتين.
يجب هنا أيضًا عدم استبعاد الدوافع الشخصية الضيقة للمستوى السياسي والعسكري الإسرائيلي المسؤول عن إخفاق السابع من اكتوبر، فهؤلاء يبحثون عن إنجاز يقدمونه الآن لجمهورهم الذي يحتاج نفسيًا إلى أي إنجاز، كما أن هذا المستوى السياسي والعسكري له مصلحة في استمرار الحرب بل وتوسيع نطاقها أيضًا، لأنهم يعلمون أنهم في اليوم التالي للحرب سيمثلون أمام لجان التحقيق في الإخفاق الأخطر، واستعدادًا لتلك اللحظة يجب التزود ببعض الإنجازات للنجاة من بحر الإخفاقات.
3 سيناريوهات بعد الاغتيال
يدرك حزب الله جيدًا طبيعة الدوافع الإسرائيلية الاستراتيجية والضيقة التي تقف خلف اغتيال صالح العاروري، وخياراته واضحة ومحدودة، أولاً: الرد على نطاق واسع، وبالتالي الدخول في حرب مفتوحة وبذلك يتحقق لنتنياهو غايته من عملية الاغتيال. وثانيًا: مواصلة الإسناد الناري لجبهة غزة، وبذلك يجعل المرحلة المقبلة من الحرب على غزة تمثل عبئًا استراتيجيًا على إسرائيل، وبين السيناريو الأول والثاني يكمن سيناريو إخفاء النوايا بمواصلة إطلاق التهديدات، وهو ما ظهر بوضوح في خطاب حسن نصر الله بعد 24 ساعة من عملية الاغتيال، والهدف هنا هو دفع جيش الاحتلال للبقاء في حالة تأهب عسكرية طويلة.
وفي حال لم يستجب حزب الله لعملية الاستدراج، فإن إسرائيل ستبادر إلى شن حرب أوسع على لبنان.