10-نوفمبر-2018

هنالك رواية بعنوان "كلُّهم على حق"، للمخرج الإيطالي باولو سورنتينو، يقدّم لها المايسترو ميمو ريبيتو في مقدّمة من بضع صفحات كتبها في فجر اليوم الذي أتمّ فيه 100 عام. 100 عام من الحياة تكفي حتى لا يعود بإمكان المرء احتمال أيّ شيء، حتى نفسه.

في تلك المقدّمة التي يبدأها المايسترو بقوله: "كلُّ الأشياء التي لا أحتملها لها اسم"، يعدِّدُ المايسترو العديد من الأشياء التي لا يحتملها، وهي كثيرة؛ الكهول، الشُبان، الأجيال اللاحقة، الأجيال الماضية، المشاغبون، العشاق ذكورًا وإناثًا، الشيوعيون، التجارة النزيهة الهادفة، الفوضى، الناشطات في حقوق المرأة، المفكرون، نواب أمناء السر، عازفو الشوارع، المغتصبون، المساعدون الاجتماعيون، ربطات العنق، أبناء الضواحي، المغفلون السعداء الذين يقولون: "حبّيت!"، المتأنّقون الذين يقولون "يا له من جميل! كم هو رائع!"، المتدينون الذين ينادون الجميع "عزيزي". الحنين، الرتابة، الكآبة، الموهبة، التبعية، العدمية، الأناقة، السعادة.. أشياء كثيرة لا يستطيع احتمالها هذا الرجل، حتى نفسه لا يحتملها، لا يحتمل إلّا شيئًا واحدًا وهو "التباين".

في التوق إلى البذاءة

فقط عندما يصل المرء سنًّا معيّنة، بإمكانه أن يقول ما يشاء متى شاء دون أيّ قلق بآراء الآخرين. كحال المسنّين، الذين قد يتلفّظون بالبذاءة طوال الوقت فقط من أجل البذاءة نفسها، متمتّعين بحقّهم الطبيعي بقول الأشياء كما يعجبهم قولها لا كما هو متّفق اجتماعيًا قولها على وتسميتها. والمايسترو مسنّ آخر لا يحتمل نفسه، وقد استطاع أخيرًا عندما أتمّ الـ100 عام، أن يعبّر عن كلّ ما يجول في ذهنه عن الآخرين وعن عالم لا يطاق ولا يحتمل؛ ويكتبه بتلك الصراحة القريبة من الوقاحة إلى حدٍّ ما.

على ما يبدو أنّنا في عالم لا يطاق، مواطنوه يتوقون إلى البذاءة، التي هي بمعنى أو بآخر، تعني قول الحقيقة بحسب اعتقادات الناس عن الحقيقة

وعلى ما يبدو أنّنا في عالم لا يطاق، مواطنوه يتوقون إلى البذاءة، التي هي بمعنى أو بآخر، تعني قول الحقيقة بحسب اعتقادات الناس عن الحقيقة أو تسمية الأشياء بمسمّياتها بعيدًا عن التفلسف والتذاكي والتخفّي خلف العبارات المنمّقة المعدّة مسبقًا.

اقرأ/ي أيضًا: كيف أفسدت السياسة قدرتنا على العناق؟

تمثّل الشعبوية شيئًا من هذا بالنّسبة للكثيرين. من جهة، تحرّر الكراهية الموجودة أصلاً تجاه الآخر، وتجعل من ممارسة الكراهية فعلًا مقبولًا وسلوكًا هو حق بالأساس لفاعله. ومن جهة أخرى، هي انتصار لذاك الفرد الذي هو خاضع لسلطة الدولة وترميزها وعملية إنتاجها وإعادة إنتاجها للحقائق الرسمية عنه هو وعنها هي، وما بينهما من علاقة قانونيّة.

ماذا يعني أن تكون مواطنًا؟ ماذا يعني أن تكون ناخبًا؟ ماذا يعني أن تكون ليبراليًا؟ ماذا يعني أن تمتلك هويّة وطنية وانتماء وطني؟ ماذا يعني كلُّ هذا.. الهراء؟

هذا لا يهمّ ناخبي بولسونارو وترامب، هذا كلّه هراء بالنّسبة لهم. ما يهمّهم هو ما يتفوّه به ترامب وبولسونارو من حماقات حتّى لو كانت بحقّهم هم أنفسهم، لأنّ سلوكًا كهذا يمثّلهم، ويمثّل ما في داخلهم من نزوع نحو تدمير الرسميّ والسخرية منه.

وبالإضافة إلى هذا النزوع، هنالك نزوع نحو أمرٍ آخر وهو هدم وتحطيم مصطلحاتٍ كالعدالة والمساواة والفرص المتكافئة والانفتاح. تلك مصطلحات بالنّسبة لناخب ترامب لا تعني شيئًا سوى فرصًا أقلّ بالنسبة له ليكون أكثر غنى، وفرصًا أكثر لآخرين لا يستحقّونها بينما كان يجب أن تكون خاصّة به.

وبينما نشهد صعود الشعبوية، نشهد هبوطًا لدى اليسار والتيار الليبرالي، لأنّ كثيرين من هؤلاء يعتقدون أنّ بإمكانهم محاربة صعود الشعبويّة واليمين المتطرّف عبر محاضرات في الديمقراطية ومقالات في مشاكل العدالة الاجتماعيّة، بينما يفتح الشعبويين أفواههم ويمدُّون ألسنتهم للمقالات والمحاضرات حرفيًّا، ساخرين من كلّ شيء.

هذا عصر "الجوكر" بطريقة أو بأخرى، وهو عصر ترامب الذي هو هكذا لأنّه يستمتع بكونه هكذا، ويستمتع ناخبوه بمشاهدته وهو يكون هكذا

هذا عصر "الجوكر" بطريقة أو بأخرى، وهو عصر ترامب الذي هو هكذا لأنّه يستمتع بكونه هكذا، ويستمتع ناخبوه بمشاهدته وهو يكون هكذا. الشرّ من أجل الشرّ فقط لا أكثر. بالتأكيد هنالك مصالح هنا وهناك، وهنالك لوبي السلاح في الولايات المتحدة، ولوبي النفط، وعلاقات ترامب الشخصيّة، واللوبي الصهيوني.. إلخ، لكنّ هذا كلُّه لا يُلغِي أنّ ترامب هكذا لأنّه هو هكذا ويستمتع بكونه هكذا، فإن توافق ذلك مع مصالح البعض هنا وهناك، لا ضير في ذلك، لكنّ الأكيد أنّ وجود ترامب كـ"مخرّب شرعي" لمسرح السياسة الأمريكيّة يتّفق مع مزاج النّاخب الأمريكيّ وكثيرين حول العالم.

بولسونارو على خطى ترامب..

كان الصحفيّ الإسرائيليّ يقف منتظرًا ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية في البرازيل، حتى إذا فاز بولسونارو يقتنص منه بعض التصريحات الصحفية بخصوص إسرائيل. فاز بولسونار وأدلى بتصريحات مؤيدة لإسرائيل ومعادية للفلسطيينيين، وتحديدًا أزعجه أن تكون سفارة فلسطين على مقربة من القصر الرئاسي وهو ينوي نقلها من مكانها، ومن ثمّ: لماذا يكون هنالك سفارة للفلسطينيين وليس لديهم دولة حتى اللحظة؟

كثيرون مستعدون لكتابة تقارير صحفيّة وبحثيّة مطوّلة فيما وراء موقف بولسونارو العدائيّ هذا الذي يسكن أمريكا الجنوبيّة تجاه شعب أعزل في مواجهة قوّة نووية، وقد يكونون "كلّهم على حق"، ولكن، سيكونون أيضًا "مخطئين"، لأنّهم "كلّهم على حق" في الوقت ذاته. لأنّ موقفًا كهذا لا يمكن تفسيره إلّا عبر مجموعة من التفسيرات المحقّة الخاطئة مع بعضها البعض، ولكنّها تؤشّر جميعها إلى مسألة أساسيّة: بولسونار هو "جوكر" البرازيل الذي يستمتع بكونه شريرًا لا أكثر، ذلك توافق مع المصالح الإسرائيليّة، هذا جيّد للإسرائيليين، سيء للفلسطينيين، بالتّوفيق في الانتخابات القادمة لكِلا الطرفين.

أمّا العقلانية؟ أمّا التحليل السياسي الذي يستند إلى افتراض مفاده أنّ العالم مبنيّ على العقلانيّة ومبادئ إعلان حقوق الإنسان؟ أمّا النظريات السياسيّة عن الدولة التي تستند إلى افتراض بوجود مبادئ أساسيّة في العلاقات الدولية؟ أمّا هذا كلّه؟ هذا كلّه ممكن كتابته والإطالة في كتابته؛ لكنّه عبث في عبث. في عالم كهذا، لا شيء يُطاق فيه، لا يزال البعض يعتقد أنّ بإمكانه إدراك مغزى الشعبويّة عبر بحث أكاديميّ هنا أو هناك، أو محاربتها بمقالة أو اثنتين أو محاضرة أو اثنتين وهذا توجّه يجب إعادة النظر فيه.

هناك من هم مثلي، متفرّجون، يكتبون عن العالم من حين إلى حين، وقد يصوّرونه وقد يكونون جزءًا منه أيضًا، ولكنّهم متفرّجون، يؤمنون بإله "المجزرة" الكامن فينا جميعًا؛ منه تأتي الشعبويّة، إليه تعود، وبها يحيا. 


اقرأ/ي أيضًا:

ترامب.. وأخيرًا اللعبة القذرة دون وجه أنيق

هكذا يُستخدم الأشخاص الأقل حظًا

كيف نجحت إسرائيل مع الله وفشلنا