تفضّل النازحة الخمسينية ماجدة قديح "الوحدة والنزوح بمفردها من مكان إلى مكان" على أن تجتمع مع ابنتيها في مكان واحد قد يتعرض لاستهداف إسرائيلي، وترتكب بحقهم واحدة من جرائم الإبادة ومسح أسر بأكلمها من السجل المدني.
لماجدة، 59 عامًا، قصة نزوح فريدة من نوعها، فهي تقيم في سيارتها الخاصة، وعلى مدار شهور الحرب التسعة الماضية انتقلت بها من مكان إلى آخر، سعيًا وراء أمانٍ مفقود، وتقيم حاليًا داخل ساحة مجمع ناصر الحكومي في مدينة خانيونس، منذ نزوحها الأخير من مدينة رفح المجاورة قبيل اجتياحها بريًا في 6 أيّار/مايو الماضي.
اختارت ماجدة أن تُنذر حياتها لتربية أطفالها الأربعة، وقد أكملت مسيرتها معهم كأم بتربيتهم وتعليمهم
ماجدة هي أرملة شهيد فقد حياته في العام 1997 جرّاء استنشاقه كمية كبيرة من الغاز أطلقه جنود الاحتلال قرب حاجز التفاح غرب مدينة خانيونس، وكان وقتها يعمل ضمن قوات الأمن الفلسطيني، التي عاد معها من ليبيا عقب تأسيس السلطة الفلسطينية.
كانت ماجدة آنذاك في مطلع العقد الثالث من عمرها، واختارت أن تُنذر حياتها لتربية أطفالها الأربعة، وقد أكملت مسيرتها معهم كأم بتربيتهم وتعليمهم، وتزوجت ابنتيها في خانيونس، فيما يعيش ابناها تامر وشادي مغتربان في أوروبا منذ أكثر من سبعة أعوام.
نازحة في سيارة
في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وبعد يومين من الهجوم الكبير على مستوطنات غلاف غزة، واندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بدأت رحلة ماجدة مع النزوح، إذ وضعت القليل من الملابس والاحتياجات الأساسية في سيارتها الخاصة، وانطلقت من منزلها في بلدة عبسان الكبيرة شرق مدينة خانيونس نحو منطقة المواصي في غربها، وبعد أيام من التنقل كضيفة لدى صديقتها في خيمة واللجوء لجامعة الأقصى التي تحولت لمركز إيواء، اختارت أن "تعسكر" بسيارتها في باحة مجمع ناصر الطبي، وكان آنذاك يعج بالصحفيين وآلاف الأسر النازحة.
أربعة شهور قضتها ماجدة نازحة في سيارتها داخل مجمع ناصر، وتقول لـ"الترا فلسطين" عن هذه التجربة: "كانت سيارتي هي بيتي الصغير، أتناول فيها الطعام والشراب، وأقضي فيها الليل، فقد زودتها عند نزوحي من منزلي في عبسان الكبيرة بملابس، وباحتياجات أساسية بسيطة من أواني المطبخ، التي ساعدتني على الأيام العصيبة".
مرّت على ماجدة مناسبتان داخل سيارتها، شهر رمضان ويوم المرأة العالمي في الثامن من آذار، وتقول: "اشتريت فانوسًا وعلقته في السيارة، وفي يوم المرأة العالمي اشتريت وردة واحتفلت بنفسي مع نفسي"
إلى حد ما تشعر ماجدة بالأمان داخل سيارتها، حيث تغلقها على نفسها من الداخل وتحكم إجراءات الأمان فيها، فضلًا عن وجودها في محيط منطقة لا تنام ولا تتوقف فيها الحركة بسبب وجود الصحفيين الدائم، لكنها تفتقد ما تسميه "خصوصية المرأة"، خاصة المتعلقة باحتياجها للحمام والنظافة الشخصية.
مكثت ماجدة على هذه الحال، وقد صادقت الصحفيين والنازحيين وباتت وجهًا مألوفًا بالنسبة لهم كنازحة في سيارة، حتى استشعرت بالخطر الشديد عندما اقترب الاجتياح البريّ الإسرائيلي من محيط مجمع ناصر الطبي إبان العملية العسكرية ضد خانيونس، فاختارت النزوح إلى المجهول، وتقول: "خرجت بسيارتي وأنا لا أعرف أين وجهتي المقبلة".
قادتها الطريق نحو مدينة رفح آخر مدن القطاع جنوبًا على الحدود مع مصر، واستدلت في طريقها على مكان في "الحي السعودي 1" غرب حي تل السلطان بالمدينة، حيث كانت المنطقة تؤوي نازحين تعرفت إلى عدد منهم وهم من جيرانها ومعارفها في عبسان الكبيرة والبلدات المجاورة، وواصلت على ذات نمط الحياة وروتينها الذي اعتادته في مجمع ناصر، تأكل وتشرب وتنام في السيارة، وخلال ساعات النهار تخرج للتسوق وقضاء الوقت.
رمضان والثامن من آذار
مرّت على ماجدة مناسبتان داخل سيارتها، شهر رمضان ويوم المرأة العالمي في الثامن من آذار، وتقول: "اشتريت فانوسًا وعلقته في السيارة، وفي يوم المرأة العالمي اشتريت وردة واحتفلت بنفسي مع نفسي"، وتضيف: "هي حياة واحدة سنحياها ولابد أن نحياها بحب وفرح وسعادة رغم الألم، فنحن شعب نستحق الحياة".
قضت أيامًا من رمضان تتناول وجبتي السحور والإفطار لوحدها داخل السيارة، واستجابت في أيام ٍأخرى لدعوات إفطار لدى صديقات، وتقول: "للحرب وجوه كثيرة من الألم والمعاناة، من بينها أن تكون امرأة وحيدة ونازحة".
ورغم هذا الألم إلا أن ماجدة تجده أفضل من فاجعة المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال بحقّ أسر تمسحها بالكامل من السجل المدني، حيث تؤدي الغارات الجوية بحياة جميع أفرادها، ولذلك كانت نصيحتها لابنتيها أن لا تجتمعان مع أسرتيهما في مكان واحد.
خلال شهور نزوحها الأول في مجمع ناصر كانت تجتمع مع ابنتيها خلال ساعات النهار، ومع حلول المساء تذهب كل واحدة منهن مع أطفالها إلى مركز الإيواء الذي تقيم به مع أسرتها.
عزلة وآلام الفقد
ونالت ماجدة نصيبها من تجارب الألم الوفيرة المرتبطة بهذه الحرب التي تصنفها بأنها "أصعب تجربة مرت علي طوال حياتي"، وهي التي قضت سنوات طويلة من حياتها تتنقل مع زوجها في 12 دولة عربية، قبل العودة والاستقرار في قطاع غزة.
وعن أصعب تجارب الحرب التي مرت بها، تقول ماجدة كانت أيام انقطاع الاتصالات والإنترنت تجربة مريرة وقاسية، فقد انقطعت كل وسائل التواصل مع أبنائي في أوروبا، ولم أعد قادرة على التواصل معهما وطمأنتهما، حتى انتبه يومًا الصديق الصحفي الشهيد محمد أبو حطب لحزني وعلم بحكايتي واستضافني في فقرة على شاشة تلفزيون فلسطين الرسمي، وشاهدت صديقتي الفقرة وتواصلت مع أبنائي وشاهدوني واطمأنوا أنني بخير.
واستشهد أبو حطب وهو مراسل تلفزيون فلسطين في مدينة خانيونس جرّاء غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزله في المدينة، وارتقى برفقة جميع أفراد أسرته، وتقول ماجدة إنها فقدت أصدقاءً وأقارب، أبرزهم ابن عمها طبيب الأسنان محمد قديح، الذي كان قريبًا منها، وتشعر بالأمان في وجوده.
وإضافة إلى الخسائر في الأرواح، فقدت ماجدة منزلًا حديثًا كانت قد شيدته وسكنته قبل عام واحد من اندلاع الحرب، فضلاً عن دمارٍ جزئي في منزلٍ آخر.
ولا تشعر ماجدة بالحزن على دمار الحجارة بقدر حزنها الشديد على أشجار ومزروعات في حديقتها المنزلية، كانت توليها اهتمامًا كبيرًا وتخصص لرعايتها متسعًا كبيرًا من وقتها بشكل يومي ومستمر، حتى أنها تقول: "لا أبالغ إذا قلت أنني كنت اشعر وكأن الأشجار والورود تتحدث معي".
باقية ولن أرحل
ورغم هذه الخسائر في الأرواح والممتلكات، إلا أن ماجدة تبدي قدرًا كبيرًا من الصمود والارتباط بأرض غزة، وتقول: "أبنائي يمتلكون جنسيات أوروبية ولكنني أرفض الهجرة، ولن أغادر منزلي وحديقتي ومملكتي في عبسان الكبيرة".
وقد عادت ماجدة بالفعل وأقامت في منزلها القديم شبه المدمر لنحو خمسة أيام، قبل نحو أسبوعين، واضطرت إلى النزوح مجددًا بناء على إنذارات إسرائيلية لسكان عبسان الكبيرة والبلدات المجاورة في شرق خانيونس.
وتنشط ماجدة في بلدية بلدتها ومؤسسات ومبادرات مجتمعية: "هنا حياتي وأهلي وعزوتي وذكرياتي، وفيها جذوري، ولن أذهب إلى دولة غريبة ليس لي فيها لغة أو جذور".