حين مرضت والدتها بورمٍ خبيث في الغدة الدرقية، عام 2013، توّقف الزمن قليلاً ليُقدم لها أصعب ما يُمكن أن يُخبئه القدر للمرء، وهو مرض أقرب الناس إليه، وبينما الكثير ممن حولها يُطبطب على كتفها، ويُتمتمون بدعوات الشفاء، والعديد من الاتصالات والرسائل التي ظلّت تنهال لأيامٍ على هواتفهم تشدّ من أزرهم حتى لو "رفع عتب"، كانت الابنة البكر لهذه العائلة تتشرب الصدمة القاسية على مهلٍ في ليلةٍ طال سوادها.
"أتصلح الحياة من دون أم؟" كان هذا السؤال الذي فرض نفسه عليها في تلك اللحظات العصيبة؛ فخارت قواها وشعرت بانكسارٍ شديد، وبقلق على أمها من شبح الموت لا يكاد يُفارقها، لكن ثمة تساؤلات أوقفتها عن بكائها المرّ: "أين علم النفس منّا؟ ألست أولى الناس بأن أستفيد من تخصصي الجامعي وأفيد؟". حتى ذلك الوقت، لم يكن العمل مع فئة مرضى السرطان يشغل تفكيرها، إذ كان عملها منذ عام 2008، متركزاً على الدعم النفسي للأشخاص الذين تعرضوا للأزمات بعد الحرب، فماذا فعلت الأخصائية النفسية غادة بن سعيد؟
غادة بن سعيد أُصيبت أمها بالسرطان، فقررت تشكيل فريق متخصص في الدعم النفسي لمرضى السرطان الذين يعانون الأمرين في غزة
كانت غادة حنيها على أعتاب إعداد رسالة الماجستير في علم النفس، ولم يعد يشغل تفكيرها سوى هذا المرض الذي تسلل خلسةٍ إلى جسد أمها فتمكّن منه، لتُقرر أخيراً بعد غمرة تساؤلاتٍ ومشاعر متناقضة أن تحوّل مسارها المهني من ناشطة في الدعم النفسي العام، إلى الدعم النفسي لمرضى السرطان، وأتمّت رسالتها التي تحمل عنوان: "برنامج إرشادي نفسي مقترح لتخفيف حدة أعراض الاكتئاب وقلق الموت لدى الأشخاص المصابين بسرطان الدم (اللوكيميا) في قطاع غزة".
اقرأ/ي أيضاً: في بلادي يخافون ولادة الأنثى ويعزون أهلها
تقول غادة في حديث لـ "الترا فلسطين"، إنها خلال دراسة الماجستير عرفت أكثر عن المرض ومضاعفاته وكيفية التعامل مع المصابين وذويهم، وشاركت في العديد من الفعاليات والأنشطة في هذا المجال، ثم شكلت فريق "مسار" لرعاية ودعم مرضى السرطان في غزة. ويضم "مسار" مجموعة متخصصة في علم النفس من كلا الجنسين، وقد نفذّ الفريق سلسلة من الفعاليات والأنشطة الترفيهية، وجلسات التفريغ النفسي للمرضى.
وكون العلاج الكيميائي يترك آثاراً سلبية على مرضى السرطان، مثل انحسار نضارة الوجه ونحول الشعر، والهزل، وبسبب هذه الآثار، لم تعِرف غادة صديقتها هدى المصابة بهذا المرض إلا بعد وقتٍ متأخر من وجودها في المستشفى، لكن ثمة مشاعر كانت تدفعها للبقاء معها فترة أطول، أما هدى فكانت تُمسك بيد صديقتها تشد عليّها ولا تفلتها، ومع ذلك عزّ عليها أن تُخبرها بصداقتهما بعد أن شوّه السرطان ملامحها.
تقول غادة: "من واقع هذا الموقف ومواقف مشابهه انطلقت مبادراتنا"، مشيرةً إلى أن الفريق حاول من خلال فعاليته التأكيد على الجمال الأنثوي الذي لا يُغيبه المرض، وذلك بتغطية الآثار فنياً.
ونفذ الفريق فكرته عبر مبادرتين، كانت أولاهما "جميلة والذئب"، وتحمل رسالة مفادها أنه "مهما غيّب المرض ملامح المرأة، إلا أنه مازال فيها جزء متأصل ينتمي للجمال، فاستخدم الورود لإشارة للأمل والازدهار رغم الوجع" وفق غادة.
أما المبادرة الثانية، فتحمل عنوان "لسا حنعيش"، وتمثلها فتاة ترتدي فستان زفاف أبيض مزين بإشارة مرض سرطان الثدي، وتهدف للتوعية بضرورة الفحص المبكر لسرطان الثدي، "وكذلك لإيصال رسالة الفتيات غير المتزوجات المصابات بهذا المرض، بأن من حقهن الزواج وممارسة حياتهن الطبيعية، وأن المرض ليس عاراً ولا جريمة، وأنه يجب محاربة النظرة المجتمعية السلبية تجاه مرضى السرطان".
وتضيف غادة، "مع أن هذه المبادرة الأخيرة لاقت رواجاً إيجابياً، إلا أن البعض لم يرق له ما فعلناه، لدرجة أنه وصلتني تهديدات مجهولة المصدر إذا أكملت هذه الرسالة، وحاولوا أكثر من مرة إغلاق صفحتي على مواقع التواصل الاجتماعي. لا أعرف ما هي أسبابهم لكنّي لن أتوقف".
تعرض فريق مسار لدعم مرضى السرطان في غزة لتهديدات وتحذيرات من متابعة عمله، وجرت محاولات لإغلاق صفحته على موقع فيسبوك
وتشير غادة إلى غياب لجان الدعم النفسي في مستشفيات قطاع غزة، إذ يُكتفى بإعطاء الجرع والأدوية للمريض، مضيفة، "المعروف عندنا أن السرطان مرتبط بالموت، مما يجعل تفكيك هذه المعادلة أمر صعب، لكن ما تمكن الفريق من إنجازه هو التخفيف من حدة الاكتئاب والتراجع قليلاً عن التفكير بالموت".
ومع طلب مريضات "الفضفضة على جنب"، ونجاح أخريات في التكيف مع المرض، تقدّر غادة نسبة نجاح فريقهابـــ50%، لافتة إلى ضرورة تكاثف الجهود بين المؤسسات العاملة في هذا المجال، لإحراز تقدم ملحوظ.
"ماذا عن تأثركم أنتم خلال تعاملكم مع هذه الحالات؟" طرحنا هذا السؤال على غادة، فاعترفت بما قالت إنه "انكسار للحظات بعد التعامل مع المرضى"، وأضافت، "أحيانا نعود إلى بيوتنا مرهقين فكرياً من الحالات التي نتعامل معها في المشفى، أما الجزء الأصعب في هذا التأثر، فهو التعاطف الزائد مع المريض دون إدراكٍ منّا، مما يؤتي نتائج سلبية على المعالج والمريض".
وتابعت، "حوّلني هذا المجال من إنسانة مسالمة إلى إنسانة شرسة في وجه المرض ومعتقدات المجتمع السيئة".
وكان من المفترض خلال زيارتنا مع فريق مسار لمستشفى الرنتيسي، أن نُقابل إحدى المريضات اللواتي حصلن على جلسات العلاج النفسي، غير أننا وجدنا الموت قد سبقنا إليها، فكانت لنا لقاءات أخرى مع بعض المرضى وذويهم، وهناك من امتنعن عن الحديث إلينا، فيما طلبت سيدات عدم الكشف عن أسمائهن، واكتفين بذكر كنية كل منهن.
"أم يوسف" مصابة بسرطان في المعدة تقول إن "الفضفضة" واحدة من الأساليب المهمة التي تؤثر إيجاباً على نفسيتنا، لكنها استدركت، "هناك جانب لا يجب إغفاله، وهو أن من حولنا خارج إطار المستشفى يلعبون دوراً مهماً في التأثير سلباً أو إيجاباً على نفسيتنا، والنظرة السائدة في المجتمع تجاه هذا المرض سلبية مقرونة بالموت للأسف ".
لا توفر مستشفيات غزة دعماً نفسياً لمرضى السرطان، وكثيراً ما تجمع المستشفيات بين حالات صعبة وأخرى أقل سوءاً، ما يترك أثراً نفسياً سيئاً على المرضى
أما "أم فهد" التي تقول إنها بدأت تتماثل للشفاء من السرطان، فقد أشارت إلى وجودها في غرفة المبيت مع مرضى في المراحل المتأخرة من المرض، ومنهم من فارقوا الحياة أمام ناظريها، ما يؤثر سلبياً على نفسيتها، ويدفع كابوس الموت إلى تفكيرها.
اقرأ/ي أيضاً: أطفال مرضى بالسرطان يجمعهم فريق كرة قدم
الفنانة التشكيلية مريم صلاح (22 عاماً) شاركت في تزيين وجوه مريضات السرطان فنياً بالمكياج والورود. تقول لـ "الترا فلسطين"، إن مجموعة من الأفكار التي تحمل رسالة إنسانية تجاه المرضى تراودها منذ فترة طويلة، ما جعلها ترحب دون تردد في تنفيذ مبادرة غادة عند اتصالها بها، لتغطية وجوه مريضات السرطان فنياً.
وتؤكد مريم على أهمية نشر الوعي حول حق المرأة في ممارسة حياتها الطبيعية، وكذلك نبذ المعتقدات المجتمعية السيئة الخاصة بالتعامل مع مرضى السرطان، وتدعو إلى تكاثف الجهود من أجل ايصال الرسائل التي لا يستطيع المرضى إيصالها للناس.
وكانت دراسة كشفت سابقاً عن أن 38% من النساء اللواتي أُصبن بالسرطان في قطاع غزة، طلقهن أزواجهن، وهذا ما تناوله "الترا فلسطين" في تقرير سابق عن تبعات إصابة السيدات في غزة بسرطان الثدي، الذي يحتل صدارة أنواع السرطان التي تؤدي إلى الوفاة في غزة.
اقرأ/ي أيضاً:
إسراء جعابيص.. عذابات الأسر والإصابة