يغادر فايز أبو غزة منزله ساعات طويلة في شهر رمضان، ليس لقضاء وقت الصيام الطويل مع أصدقائه أو أقاربه، بل لأنه لا يستطيع تحمل صوت صراخ ابنه محمد، المصاب في قدمه، وهو يقف عاجزًا عن المساعدة. أُصيب محمد (26 عامًا) في مذبحة يوم العبور، منتصف شهر أيار/مايو الماضي، لكنه مثل حالات كثيرة غادر المستشفى قبل انتهاء العلاج، نتيجة وجود آلاف المصابين مقابل محدودية الإمكانيات الطبية في قطاع غزة المحاصر.
كانت إصابة محمد في القدم، وشخّص الأطباء حالته بأنه يحتاج إلى تجبيس، وهذا لا يتوفر في المستشفى، فاشتراه والده له، ليغادر المستشفى بعد يومين. لم يتوقف صراخ محمد من شدة الألم، فذهبت به العائلة إلى مستشفى غزة الأوروبي، ليتبين أنه بحاجة إلى زراعة بلاتين في القدم.
جرحى أُصيبوا في مسيرات العودة لا يجدون مكانًا لهم في مستشفيات غزة، ويتكبدون تكاليف أدويتهم، وأغلبها مسكنات
وأمام الوضع المادي الصعب لعائلته، يُضطر محمد إلى تقليص عدد مرات أخذ دوائه ليبقى وقتًا أطول. يقول لـ الترا فلسطين: "نحن نسكن بالإيجار وعائلتنا كبيرة، ووالدي عليه ديون وأقساط، ومن الصعب عليه شراء الأدوية والمسكنات التي سعر أقلها 50 شيكل، لهذا أشرب الدواء الصبح والمساء وموعد منتصف النهار لا أشربه، أي نعم أشعر بالألم، ولكن أتحمل من أجل والدي لأنه لا يستطيع توفيره لي كل ثلاثة أيام ولا يوجد أي جهة ساعدتني بالعلاج ولا بالمتابعة".
من يتابع حالة محمـد؟ يُخبرنا أن جارهم الممرض يأتي "ليطمئن عليه ويخفف عن عائلته ويطمئنهم فقط".
اقرأ/ي أيضًا: جريحات في مسيرات العودة: لنكون أول العابرين
يقول والده فايز: "دائما أخبر عائلتي بأني في يوم سوف أسجن بسبب الديون المتراكمة علي، الشعور بالعجز أمام ابنك هو حرقة قلب للأب، هذا الشهر الفضيل حمل معه أوجاع كثيرة فقدنا بسببها بهجته. جمعة العيلة ينقصها محمد على الإفطار لأنه لا يغادر السرير، وأغلب إخوانه لا يحبوا الإفطار بدونه، ووالدته لا تكمل أكلها حزنًا عليه. نحن لا نعرف مصير ابننا، وذنبه برقبة من حرمه من العلاج والاهتمام".
[[{"fid":"72194","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":507,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
وأُصيب في مذبحة يوم العبور أكثر من 3 آلاف متظاهر، خلال المواجهات التي وقعت عند السياج الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 48، وذلك في ذروة مسيرات العودة التي تزامنت مع الذكرى الـ70 للنكبة، وافتتاح السفارة الأمريكية في القدس.
ولاء (28 عامًا) وأخوها عبد ربه عاشور (19 عامًا)، من جرحى مسيرات العودة أيضًا. أصيبت ولاء في الفخذ برصاص متفجر، وأصيب عبد ربه إصابة أصعب في قدمه. يحتاج كل منهما لأدوية ومسكنات وعكاكيز ليستطيعان التنقل وقضاء حاجاتهما، وتوفير ذلك أمرًا شديد الصعوبة على عائلتهما المكونة من 10 أفراد والأب لا يعمل.
[[{"fid":"72195","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":326,"width":580,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]
غادر الشقيقان المستشفى، وبقي عليهما متابعة علاجهما من المنزل وتحمّل تكاليفه. تقول أمهما: "إصابتهما صعبة ومكلفة مادية، ومعظم الأدوية التي اشتريتها لهما بالدين. ابن الجيران يتطوع ليتابع الجرح ويطهره لهما، المستشفى أخرجهما وترك المسؤولية علينا نحن الذين لا نفهم لحالتهما. فقط نتحسر عليهم وهو يتألموا أمامنا".
تتغيب ولاء، وكذلك محمد عن الإفطار كل يوم، "فلا يبقى للطعام أي طعم أبدًا" كما تقول أمهما، مضيفة، "لم تمضِ لحظة وأنا بخير في هذه الأيام، عندما أسمع صوت واحد منهما يتألم أترك كل شيء من يدي وأذهب له".
وأرسلت وزارة الصحة أدوية إلى قطاع غزة بعد المذبحة، لكن الشحنة لم تُنه أزمة الأدوية في القطاع، تحديدًا بعد إرجاع أدوية إسرائيلية حاولت سلطات الاحتلال إدخالها مع شحنة الأدوية التي أرسلتها وزارة الصحة، وذلك "رفضًا لمحاولة الاحتلال تجميل صورته بعد المذبحة" كما قالت الهيئة العليا لمسيرة العودة.
محمد شريف (17 عامًا) خرج من المستشفى والرصاصة لا تزال عالقة بين عظمة الحوض والفخذ، أخرجه الأطباء من المستشفى واصفين حالته بأنه يصعب التعامل معها في غزة، فطلبوا منه الذهاب إلى البيت، ولم تُكتب له إلا مسكنات فقط.
أحد جرحى مسيرات العودة أُخرج من المنزل وفي قدمه رصاصة، وآخرون لم يُقدم لهم الأطباء أي علاج
نجلاء عاشور، والدة محمد، عاشت حالة هستيرية صعبة مع إصابة ابنها، فعندما أخرجه الأطباء من المستشفى، ارتفعت درجة حرارته وصار يرتجف. تقول: "خرجنا مفزوعين منتصف الليل نركض إلى المستشفى وطلبنا أن يبقى حتى لا يتكرر الأمر معه ولكن لم يقبلوا. إن وجود محمد في المنزل والرصاصة لا تزال في جسمه أمر يرعبني، لا أستطيع أن أفعل شيئًا في المنزل، ولا أنام، بل أبقى جالسة بجانبه خوفًا من أن يتحرك، أنا أعيش في كابوس مخيف ولكن ما باليد حيلة".
اقرأ/ي أيضًا: مسعفة بقدم مكسورة وضغط مزمن و"هيموفيليا"
وتضيف، "عند الإفطار، أحزن عليه وهو نائم على ظهره لا يستطيع أن يجلس مع إخوانه على سفرة الإفطار، أرى دموعه في عيونه وعندما أذهب لآكل معه لا يقبل، ويطلب مني أن آكل مع أشقائه وهو يأكل لوحده".
[[{"fid":"72196","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":507,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]
بعد المذبحة، أعلنت وزارة الصحة نقل عشرات الجرحى لتلقي العلاج في مصر والأردن، وقررت السلطات المصرية الإبقاء على معبر رفح مفتوحًا حتى نهاية شهر رمضان، لكن مع استمرار سياسة التضييق بشكل عام في التحويلات الطبية من قبل السلطة الفلسطينية، وفي ظل الفقر الشديد الذي أنتجه حصار غزة لأكثر من 10 سنوات، فإن الغالبية العظمى من جرحى غزة لا يستطيعون السفر لتلقي العلاج في الخارج.
إبراهيم منصور (23 عامًا) أصيب برصاصة دخلت الفخذ الأيمن من قدمه وخرجت، وعندما نُقل إلى المستشفى لم يتلقّ أي علاج، بل تأكد الأطباء بأن الرصاصة خرجت من جسده، وطلبوا من عائلته أخذه إلى البيت وتنظيفه من الدم، وتضميد الجرح، ومداواته بالمسكنات.
والدة إبراهيم لا تنسى هذا المشهد مُطلقًا، ولا تستطيع أن تجلس على مائدة الإفطار بدون ابنها الذي ينام على سريره مُتألمًا. تقول: "كنت في السوق عندما أخبروني أن ابني مصاب ونقلوه إلى البيت، فعدت بسرعة ورأيت ابني يغرق في دمه. اتصلنا بممرض جارنا جاء ليضمد جرحه قليلاً، ولكن لم أطمئن على حالته لأنه لم يتابعه أخصائي أو أي طبيب من المستشفى حتى اللحظة".
وتضيف، "تعودت على إبراهيم بجانبي خاصة في شهر رمضان، يكون معي وينادي علي يساعدني في المطبخ، ولكن بعد إصابته لا أشعر بطعم أي شيء، فحتى الإفطار بدونه ليس له طعم، يأكل وحده ونحن وحدنا".
وكانت وزارة الصحة أعلنت أن عدد جرحى مسيرات العودة منذ انطلاقها زاد عن 13 ألف جريح، بينما قال الصليب الأحمر نهاية شهر أيار/مايو إن هناك ألف جريح حالتهم خطيرة.
اقرأ/ي أيضًا:
حكاية محمد النجار.. "حتى لا يبرد في ثلاجة الموتى"