29-يونيو-2019

راجت في ثلاثينات القرن الماضي أبياتٌ من الشعر في بلدة عقربا جنوب نابلس، تصفُ حدود بلدتهم في الغور، حيث تمتد أراضيهم شرقًا حتى نهر الأردن، وكان من هذه الأبيات:

غـُورنـا يَـلّي ييـجِيـه  .. إلا يِظَلْ إمْشِـلكَحْ بِيه

بالمـوزَر حِنّا نِحميـه  ..  ونـوريكـُم لِحــدُود

خِلْفِتْ أبونا وِلجِــدُود

مِنْ شَرقا المخاضات .. ومن شاما لمطيـلات

ومن قِبْـلِه لبـغـيـلات .. ومِنْ غَـربا لـسـنـود*


*ييجيه: يعتدي عليه، إمشلكح فيه: مقتولاً فيه، الموزر: سلاح ناري، من شرقا المخاضات: من الشرق مخاضات الماء على نهر الشريعة، من شاما لمطيلات: من الشمال مطيل الذيب بالقرب من الجفتلك، من قبله البغيلات: القبلة هي جهة الجنوب والمقصود بها خلة البغيلات بالقرب من العُوجا، من غربا السنود: من جهة الغرب الحدود هي السنود وهي الجبال العالية.


هذه المساحة تزيد عن 144 ألف دونم، جميعها كانت عامرة بالمُزارعين، حيث كانت سُهولها تُزرع بالقمح والشعير والقطاني، فيما تُستخدم تلالها وهضابها كمراعي للأبقار والأغنام. وبحسب قيود المالية الفلسطينية، فإن هذه الأراضي الشاسعة والممتدة بين الجفتلك شمالاً وفصايل جنوبًا مسجلةٌ على أسماء مواطنين من بلدة عقربا، والجزء الأكبر منها مُسجلٌ على أسماء وجهاء البلدة بمعدل 2500-3500  دونم كل شخص نيابة عن حمولته.

وبعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، غيرت دولة الاحتلال تلك "الحدود"، حيث صادرت 70% من تلك الأراضي بحجة أنها مناطق عسكرية أو أملاك غائبين، وفق ما أفادنا به رئيس بلدية عقربا غالب ميادمه.

144 ألف دونم زراعية في الأغوار الشمالية صادر الاحتلال بعد النكسة 70% منها بحجة أنها مناطق عسكرية

وعمد جيش الاحتلال خلال السنوات الأولى من احتلاله للأغوار إلى استخدام القوة لتغيير الواقع السكاني في تلك المناطق، فهدم التجمعات الصغيرة، ولاحق الرُعاة وأطلق النيران عليهم وعلى مواشيهم، واعتقل رعاة ومزارعين، ثم عمد لنقل الأغنام إلى معسكرات الجيش وإلزام أصحابها دفع غراماتٍ مالية باهظة لأجل إخراجها من الحجز.

اقرأ/ي أيضًا: أصابع بوذا ويد الاحتلال في الأغوار

كما أقام جيش الاحتلال معسكرات التدريب بالقرب من أماكن سكن الرعاة، ودأب على استهداف خيامهم وبيوت الطين التي يسكنونها بالرصاص من حين لآخر، لدفعهم إلى مغادرة تلك المنطقة بحجة أنها مناطق تدريب عسكري، وجرف المحاصيل الزراعية وأغلق الطرق المؤدية إليها مانعًا الفلاحين من الوصول لأراضيهم، وأخذ يرش القمح والمحاصيل الزراعية بالمبيدات من خلال الطائرات كما في العام 1972 في سهول خربة الطويل شرق عقربا.

وبحسب الشهادات الشفوية، فقد تعرضت هذه المنطقة لاستباحة الجيش واستخدامه للقوة المفرطة خلال السنوات الأولى من احتلال الضفة الغربية (1967-1972)، ما أجبر الأهالي على مُغادرتها نحو تلال شفا الغور. وهكذا استطاعت دولة الاحتلال عزلها عن القرى في السفوح الشرقية لجبال نابلس (يانون، عقربا، مجدل بني فاضل، دوما)، ثم بدأت بإقامة المُستوطنات في تلك المنطقة بين شارع 90 وشارع "ألون موريه"، ومن تلك المستوطنات: "مسواة، بتسائيل، جلجال، يافث، شلومتصيون، هتيف جدود، المجلس الاقليمي بكعات هيردن، معالي افرايم"، قبل أن تُعزز سلطات الاحتلال هذه المستوطنات في الغور بمستوطنات السفوح الشرقية: "جيتيت، مجدليم، ايتمار".

ركزت مستوطنات الأغوار على الزراعة، ثم أظهر الاحتلال اهتمامه بالجانب السياسي في تلك المنطقة

ركزت مستوطنات الأغوار بدرجةٍ أولى على الزراعة، وبدأت "الدولة" تُقدم مساعداتٍ بيدٍ مُفرطة، من أجل تحويل أراضي الغور لمزارع ودفيئاتٍ تُزرع بها أشجار النخيل والعنب والفواكه وكل أنواع الخضروات. ثم أظهر الاحتلال اهتمامه بالجانب السياحي في تلك المنطقة، حيث بدأت عمليات التنقيب الأثري تجري بشكل محموم في المناطق بين فصايل والجفتلك، في محاولةٍ لخلق بيئةٍ سياحيةٍ جاذبةٍ للاستيطان والمستوطنين.

اقرأ/ي أيضًا: لا صلاة في 7 كنائس.. ألغام الاحتلال وراء ذلك

وركز الاحتلال هنا على ثلاثة مناطق بدرجةٍ أولى، هي: عين فصايل التي اعتبرها محمية طبيعة، ومنطقة النصب التذكاري الذي أقامه تخليدًا لقتلاه في الأغوار أثناء حرب الاستنزاف (1967-1970)، وجبل قرن سرطبة الأهم أثريًا في الأغوار الفلسطينية.

النصب التذكاري

كما أقام الاحتلال حديقة للتماسيح في منطقة (لِمسَطّرَه) إلى الشرق الشمالي من النصب التذكاري، غير أن هذه الحديقة فشلت لخطورة التماسيح وتجاوز عددها لـ 1000 تمساح، ما أجبر إدارة المشروع على إغلاقه مؤقتًا.

وخلال السنوات الأخيرة، ولأجل تعزيز الوجود الاستيطاني وخلق حركةٍ دائمةٍ في الأغوار، تم ترسيم نحو 16 مسارًا بيئيًا على طول مجرى الواد الأحمر والمنطقة الغورية الواقعة شرق بلدة عقربا.

وكانت سلطات الاحتلال أقامت عدة مُنشآت سياحيةٍ ذات دلالةٍ استيطانيةٍ مُرعبة في محيط حديقة النصب التذكاري، ومن ذلك "مسار التماثيل" في منطقة "لِمسَطّره" الذي يُجسد لوحاتٍ فنيةٍ ترمز لتراث وهوية الأرض المُستعمرة من وجهة نظر الاحتلال، ومن تلك اللوحات مجسمٌ لأواني فخارية وتمثالٌ لزوج من الثيران يقمن بحراثة الأرض، من خلال محراثٍ خشبي في محاولة لسرقة تراث الفلاحين الفلسطينيين.

طوال 50 سنة، بذلت المؤسسة الإسرائيلية جهودًا كبيرة لتغيير الواقع في الأغوار على حساب الأراضي العربية

وطوال الخمسين سنة الماضية، بذلت المؤسسة الإسرائيلية جهودًا كبيرة لتغيير الواقع في الأغوار، على حساب الأراضي العربية المُصادرة من أصحابها والمُصنفة حاليًا كمناطق (ج) حسب اتفاق أوسلو. ولعل آخر هذه المشاريع "مضمار السباق" الذي أقيم في أقصى جنوب غرب منطقة "لِمْسَطَّرَه" على مقربةٍ من سهل سد حريز، تلك الأراضي المُصادرة من أهالي بلدة عقربا بدعوى أنها "مناطق عسكرية مغلقة"، ولا يزال الاحتلال يمنع الدخول إليها باعتبارها "مناطق إطلاق نار"، كما تُشير لوحةٌ عسكريةٌ لجيش الاحتلال لا تبعد أكثر من كيلو متر واحد عن هذا المضمار.

وهذه اللوحة موجهةٌ بدرجةٍ أولى للعرب الذين يُقيمون في المنطقة في فصل الشتاء مع مواشيهم وأغنامهم.

لوحة تحذيرية للمزارعين والرعاة الفلسطينيين

بدأ هذا النادي الاستيطاني في العام 2016، على مقربةٍ من حديقة النصب التذكاري، بمبادرةٍ من رجل الأعمال الصهيوني "ميكي يوشاي"، وبغطاءٍ ودعمٍ من المجلس الإقليمي للمستوطنات "بكعات هيردن". وخلال هذه السنوات الثلاثة، تحول المضمار إلى نادٍ رسمي، فتم تعبيد الشوارع وتوفير الكهرباء و"الكرفانات"، وإقامة سياجٍ أمنيٍ حول المنطقة المقام فيها. وعلى ما يبدو فإن المشروع ذاهبٌ لمزيدٍ من التطور بشكلٍ أكبر، وذلك بعد إنشاء طريقٍ للدراجات على جانب الطريق الرئيسي بين الجفتلك - فصايل.

مدخل مضمار السباق

وبحسب تقاير نشرت في الصحف العبرية، فإن المجلس الاستيطاني في الأغوار حصل على تمويلٍ فاق خمسة ملايين شيقل سنويًا لهذا المشروع. ولأجل ذلك يتم تطوير المشروع وتوسعته بشكل دائم.

مضمار سباق أقامه الاحتلال في الأغوار يجذب الإسرائيليين برياضة الدراجات والسيارات

ومنذ بداية العام 2019، يُنظم هذا النادي مسابقاتٍ شبه يومية للدراجات والسيارات، يتم الترويج لها عبر إعلاناتٍ مدفوعةٍ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، لجذب أكبر عدد من المستوطنين من كافة أنحاء فلسطين.

وبدأت هذه المنطقة الغورية بالتحول لنقطة جذبٍ سياسيٍ للإسرائيليين الشغوفين برياضة الدراجات والسيارات، حيث يقيمون سباقاتهم واحتفالاتهم تحت غطاءٍ وحمايةٍ رسميةٍ من السلطات، في منطقةٍ لا تبعد سوى كيلو متر يتيم عن تجمعات البدو وخيامهم المُهددة بالاقتلاع والمصادرة بحجة وجودها في منطقة تدريب عسكري.

هذه الأرض يتم التعامل معها من منطلقين مُختلفين، هنا مسموحٌ ويحق للمستوطن الحصول على كل ما يلزم للبقاء والاستمتاع بوقته. وهناك ممنوعٌ على العربي المكوث، إذ ستلاحقه النيران والغرامات ومحاولات الاقتلاع بقوة السلاح، لأنها منطقةٌ عسكريةٌ والمسافة بين المسموح والممنوع فقط كيلو متر واحد.


اقرأ/ي أيضًا: 

الفلسطيني الملثم بعد 10 آلاف سنة.. الحفيد يُشبه جده

صور | مغارة النعسان.. "قبائل الجان" تحمي كنزًا أثريًا

عش الخفاش.. خرافة اختلقها "مشعوذ" وصدقها طماع