مقال رأي |
بعد قيام السلطة الفلسطينية سنة 1994، وبسبب العمليات المسلّحة التي نفّذتها حركتيّ حماس والجهاد الإسلاميّ في الأراضي المحتلة، قامت الأجهزة الأمنية باعتقالات واسعة في صفوف الحركتين، إذ وصل عدد المعتقلين سنة 1996 إلى 900 معتقل. وبعرقلة عمل الحكومة التي شكّلتها حركة حماس إثر فوزها بانتخابات سنة 2006، دخل عناصر الحركة في اشتباكات دامية مع عناصر حركة فتح، حيث قُتل خلال ذلك العام نحو 322 شخصًا، واستمرّت عمليات القتل والخطف المتبادل حتى سيطرت حركة حماس على قطاع غزة.
لدينا قصة استثنائية عن العنف الفلسطينيّ ـ الفلسطينيّ، واقعية إلى حد كبير مع جرعة من التخييل السحريّ، مشحونة بالأحداث، ومتماسكة السرد، متوازنة في كل المواضع خصوصًا في ذروة الصراع، شديدة المشهدية، وغنية بالدوافع
استحوذ العنف الفلسطينيّ ـ الفلسطينيّ في صيف 2007 على اهتمام الكثيرين، خصوصًا أن الفصل الأخير منه مُمثَلا بانقسام السلطة الفلسطينية إلى شطرين، جاء في لحظة غَزَت فيها القنوات الفضائية المنازل، وأصبحت الأخبار والصور والتغطيات الإعلامية، على اختلافها وتناقضها في كثير من الأحيان؛ تتدفّق بسهولة أمام المشاهدين. لكن هل كان الاقتتال بين حركتي فتح وحماس جديدًا على علاقة الفلسطينيين بأنفسهم في مِضمار السياسة؟
رافق العنف الداخليّ حركة التحرر الفلسطينية منذ صعودها بعد هزيمة سنة 1967، فقد اقتَتلَت حركة فتح مع الجبهة الشعبية في الأردن بسبب التنافس، وواصل الفلسطينيون اقتتالهم في لبنان، إذ أدّت الانقسامات التي كانت تحدث داخل الفصائل الفلسطينية إلى معارك بين التنظيم الأم والمنشقين؛ فاشتبك مؤيدو الجبهة الشعبية مع الذين خرجوا عنها مُشكّلين الجبهة الديمقراطية، واقتتل أنصار حركة فتح مع أنصار حركة فتح المجلس الثوريّ، كما اشتبكت حركة فتح بضراوة مع حركة فتح الانتفاضة سنة 1983، ووصل اقتتال الفصائل الفلسطينية ذروته في "حرب المخيّمات" في لبنان بين عامي 1985 و1987.
ولا يُعدّ العنف السياسيّ المظهر الوحيد للعنف الفلسطينيّ ـ الفلسطينيّ، إذ باتت قضية العنف الاجتماعيّ هاجسًا رئيسيًا في المجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلة سنة 1948، حيث وصل عدد ضحايا العنف بين عامي 2000 و2018 إلى 1263 شخصًا، وأصبحت الجريمة المنظّمة تشكّل نمط حياة يعيد إنتاج ذاته باستمرار. على الجانب الآخر، تشير إحصائيات الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ لسنة 2021 الى أن نسبة جرائم القتل والشروع في القتل في مناطق السلطة الفلسطينية تصل إلى 10.5 لكل 100 ألف من السكان، وهي نسبة مرتفعة مقارنةً بالمعدّل العالميّ الذي يصل إلى 6.1 لكل 100 ألف من السكان.
باتت قضية العنف الاجتماعيّ هاجسًا رئيسيًا في المجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلة سنة 1948
أما على صعيد العنف الموجّه ضدّ النساء فيبدو المشهد بالغ القَتامة، إذ شكّل مقتل كل من مادلين جرابعة على يدّ والدها، الذي قام بالاعتداء عليها بالضرب والخنق وسط قطاع غزة، وإسراء غريب فى محافظة بيت لحم على يدّ شقيقها، الذي قام بضربها فدخلت في غيبوبة حتى فارقت الحياة؛ أحدث جرائم القتل المرتكَبة بحق النساء في فلسطين. وشهد قطاع غزة سنة 2019 ستّ جرائم لقتل سيدات على يدّ ذويهن، بينما وقعت 28 جريمة أخرى في الضفة الغربية.
بات العنف الفلسطينيّ ـ الفلسطينيّ يتخّذ أشكالًا أخرى أيضًا، كالاعتقال على خلفية حرية الرأي والتعبير، والاحتجاز التعسفيّ بدون توجيه تُهم، وممارسة المعاملة السيئة والتعذيب في السجون، مع وجود حالات نادرة لمحاسبة من يثبت ضُلوعه بهذه الممارسات، هذا فضلًا عن تفجير المحال التجارية والمقاهي والمطاعم، واختطاف المواطنين والأجانب، والاعتداءات المتكررة على التجمعات الثقافية والفنية.
لو افترضنا الآن أن العنف الفلسطينيّ قد ألهَم أديبًا لكتابة قصة ما، مع وجود فرصة لاعتمادها في إنتاج عمل مسرحيّ أو سينمائيّ يتحرّى تقديم قيمة فنيّة للجمهور، فهل سيكفي الاستعراض التاريخيّ والإحصائيّ السابق للاقتراب من واقع القصة تمهيدا لكتابتها؟ أغلب الظنّ أن كاتبنا سيحتاج أيضًا إلى فهم مبدئيّ لماهية العنف، فما العنف؟
تشير بحوث علم النفس إلى أن العنف سلوك عدوانيّ متعمّد موجّه نحو الآخرين لتحقيق غاية ما، يستند الى الإكراه والترهيب والأذى الجسديّ، ويترك أثارًا نفسية وبدنية عميقة ترافق الضحية لمدى طويل. في سعيهم لفهم دوافع العنف اهتمّ الباحثون بدراسة السلوك العنيف من زوايا مختلفة، فأرجَعه بعضهم إلى عوامل غريزية كدوافع البقاء والتملّك والسيطرة، وعزَاه بعضهم الآخر إلى عوامل انفعالية كالخوف والغضب والشعور بالدونية، وذهب فريق منهم إلى ربطه باضطرابات الشخصية والاضطرابات العقلية.
العنف سلوك عدوانيّ متعمّد موجّه نحو الآخرين لتحقيق غاية ما
وبحسب مقاربات التحليل النفسيّ، غالبًا مايكون السلوك العنيف تعبيرًا عن مشاعر مكبوتة في نفس المعنِّف؛ لا يستطيع مواجهتها، وعندما تطفو على السطح بفِعل مواقف تثيرها يعجز عن السيطرة عليها، فيعمِد إلى إخفائها وإنكار وجودها، وكردّ فعلِ على فشله في دمجها يوجّه غضبه الذي يقترن بالسلوك العنيف، من دون وعي، إلى شخص آخر أضعف منه.
يبدو السلوك العنيف في نهاية المطاف كآلية نفسية اجتماعية تسعى إلى إنهاء خوف المعنِّف وعزلته، وملجأً للهروب من شعوره بالعجز، ورد فعلٍ ضدّ القلق، وهذا ما يفسّر اقتناعه بتحقيق العدالة لنفسه عند ممارسته للسلوك العنيف وعدم شعوره بالذنب، بل تلذذه بفِعلته في بعض الأحيان وإسباغ المشروعية عليها.
قد تشجّع المقاربات السابقة أديبنا المفترض للمضيّ قدمًا في مشروعه، خصوصًا على صعيد رسم الشخصيات التي سترتكب فعل العنف في النصّ، لكن ماذا عن الشخصيات التي سيقع عليها فعل العنف، أي الضحايا في عملنا التخييليّ؟
يُدعى الميل الأصيل للفرد لاعتبار نفسه ضحية الظروف الخارجية أو أفعال الآخرين، والتصرّف وفقًا لذلك، حتى في غياب ظروف حقيقية أو ذنب واضح للناس: متلازمة الضحية. في مقالته سنة 1948 لفَت عالم النفس هانز فون هنتيج الانتباه إلى الضحية كعامل في حدوث الجريمة، وطرح فكرة فهم الجريمة كعلاقة بين المتسببين بالضرر وضحاياهم. كانت هذه المقالة بداية تطوير نظرية الضحية. تدرس النظرية سلوك الضحية، وتشير إلى قابلية الفرد بسبب عدد من سماته الشخصية، في ظلّ ظروف معينة؛ لأن يصير ضحية، بحيث يصبح المعيار الحاسم في تحديد احتمال التعرّض للإيذاء هو سمات الفرد الشخصية.
على الرغم من ذلك، تظلّ الضحية عنصرًا واحدًا فقط في مركّب الجريمة، وتجد نفسها في كثير من الحالات في ظروف لا تستطيع تجنّبها. يمكن إذن، في ظلّ العلاقة بين الجاني والضحية، وفي كثير من الحالات، فهم العنف المرتكَب بوصفه خطأ ناجمًا عن تفاعل الناس على نحو ما، وليس صدفة، والاستنتاج بأن العامل البشريّ يلعب دورًا كبيرًا في هذا الصدد.
ولمتلازمة الضحية أعراض كافتراض النوايا السلبية في الآخرين، وعدم الرغبة في رؤية الموقف من وجهة نظر أخرى، والنزوع لتجنّب تحمّل المسؤوليات، وتنجُم هذه الأعراض عن عدم الاستقرار العاطفيّ أو الرغبة في الخضوع أو الإدراك المشوّه للمشاعر. يتكوّن نموذج الضحية لدى الفرد في الأسرة، ويتطور في مرحلتي الطفولة والمراهقة، ويعكس طرقًا خاطئة في التربية، كافتقار الأطفال لمنح الثقة من ذويهم وافتقادهم الشعور بالأمان وإهمالهم.
يُمكن عند هذه النقطة من العمل أن يصبح كاتبنا أكثر توازنًا في بلورة طرفيّ الصراع في القصة، إذ يبدو وتأسيسيًا على المقاربات السابقة أن علاقات العنف، وبسبب كونها مغلقة في أغلب الأحيان، أي غير مرئية من قِبل أطراف خارج فاعليها الرئيسيين؛ تتسم عادة بالتركيب، وأن الضحايا فيها ليسوا ضحايا تمامًا كما يبدو للرائي من بعيد.
سيحتاج أديبنا أيضًا إلى التعرّف على أسباب العنف الفلسطينيّ ـ الفلسطينيّ على اختلاف أشكاله. يُمكن الاستعانة بالكثير من الدراسات والآراء في هذا الصدد.
بحسب أولى المقاربات، يعتبر انتشار السلاح في فلسطين المحتلة سنة 1948 ظاهرةً غير مسبوقة، خصوصًا أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكن يتسامح فيما مضى مع أي قطعة سلاحٍ يحملها الفرد الفلسطيني، وهذا يعزّز الاعتقاد بوقوف المؤسسة الرسمية وراء انتشار العنف، وأن الجريمة لا تسير في سياق تغييرات داخلية طبيعية، بل هي نتاج سياسات موجّهة. علاوة على ذلك، هناك سياسات الاقتلاع ومنع العودة والتهويد في المناطق العربية، فضلا عن الدفع بتفاقم مشكلة الاكتظاظ السكانيّ ونشوء أحياء تشبه مخيمات اللاجئين من حيث تدنّي الخدمات الاساسية، الأمر الذي أدى لحدوث صراعات داخلية على الحيّز والموارد.
3 مقاربات لانتشار العنف الفلسطيني - الفلسطيني
يذهب رأي آخر إلى أن سياسات الاحتلال لا تشكّل عاملًا وحيدًا لتفشّي العنف، فثمة أسباب سياسية واجتماعية داخلية، حيث فاقمت التحوّلات التي شهدها المجتمع في فلسطين المحتلة سنة 1948 العصبيات وقادت إلى العنف، تحوّلات تجلّت في غَلبة الهُويات الفئوية كالعائلة والطائفة على الهوية الوطنية الجامعة، والقانون العشائريّ على القانون المدنيّ، ورجل الدين على المثقف، والحزب الحاكم على التعدد والتداول السلميّ للسلطة.
على الجانب الآخر، تساجِل مقاربة ثالثة بأن أسباب العنف في مناطق السلطة الفلسطينية تتمثل في الصراع على السلطة والنفوذ، وضعف منظومة العدالة، واللجوء إلى الحلول العشائرية، وسوء الأحوال الاقتصادية، وعسكرة القبيلة، والتمييز في تطبيق القانون على أساس الجنس والانتماء الحزبيّ، فضلًا عن التحالفات التي نشأت بين الطبقة السياسية وطبقة رأس المال على حساب المصلحة الوطنية.
حتى هذه المرحلة من العمل، سيغدو العنف الفلسطينيّ الداخليّ في نظر كاتبنا مادة واقعية تحتمل العديد من التناولات: فبين يديه تاريخ للعنف يتجاوز الخمسة عقود؛ تتراوح أشكاله بين السياسيّ والاجتماعيّ، مع وجود الاحتلال الإسرائيلي كلاعب غائب - حاضر في كل مناسبة، وحضور التحليل النفسيّ بقوة خلف دوافع الفاعلين.. فأيّ مسار سيتّخذ لبناء الزمان والمكان في القصة حتى النهاية؟ وهل سيركّز على الشقّ السياسيّ منها دون الاجتماعيّ؟ أم تراه سيميل إلى العكس؟ هل سيضع الاحتلال في المقدمة كمتغيّر مستقل في معادلة العنف؟ أم سيرمي الكرة في ملعب الفلسطينيين ليقول أن بإمكان اللعبة أن تكون لعبتهم إنْ أرادوا؟ كيف سينتصر للمرأة الفلسطينية في مركّب العنف إذا استند إلى مفهوم "متلازمة الضحية"؟ وماذا عن طابع القصة الذي يفضّله؟ هل يريدها درامية جادة أم كوميدية سوداء؟
لدينا الآن قصة استثنائية عن العنف الفلسطينيّ ـ الفلسطينيّ، واقعية إلى حد كبير مع جرعة من التخييل السحريّ، مشحونة بالأحداث، ومتماسكة السرد، متوازنة في كل المواضع خصوصًا في ذروة الصراع، شديدة المشهدية، وغنية بالدوافع التي لا تلبث أن تستقرّ حتى تتغير من جديد، كما تمتلك إمكانات سمعيّة وبصريّة هائلة، ولا ينقصها إلا موافقة المنتجين لتتحول إلى مسرحية أو فيلم.. فهل سيرى المشروع النور إذا اشترط المؤلف الامتثال حرفيًا لنسخة القصة المكتوبة؟ وماذا عن اختيار طاقم الممثلين، ولا سيّما الرئيسيين منهم؟ كيف يمكن ضمان تبنّيهم الدقيق لمقاصد النصّ على صعيد الأداء؟ وهل ستفعل اعتبارات السوق فعلها تحت وطأة الشعار السقيم: "الجمهور عايز كدة"، فتتسبب في النهاية بعمل هزيل لا يمسّ شيئًا حميمًا من أنفسنا؟