04-نوفمبر-2019

إحالة القاضي أحمد الأشقر إلى مجلسٍ تأديبيٍ على خلفية مقالٍ نشره يتعلق بالشأن العام، يشكل ملاحقة لقاضٍ على خلفية رأيه، وهو أمرٌ مؤسف، ويأتي في إطار أسلوبٍ اتخذته مجالس القضاء المتلاحقة لتخويف القضاة من التعبير عن آرائهم، خاصة حين يزعج هذا الرأي من يجلسون على سدة مجلس القضاء.

مجالس القضاء المتلاحقة عملت على تخويف القضاة من التعبير عن آرائهم، خاصة حين يُزعج هذا الرأي من يجلسون على سدة مجلس القضاء

ففي عهد مجلس القضاء الأعلى السابق، تم تحويل ثلاثة قضاة على الأقل للتحقيق معهم على خلفية آراء نشروها في وسائل الإعلام أو خلال ورشات عمل، وهم سعادة القضاة عبد الله غزلان وعزت الراميني وأحمد الاشقر، ولم تستكمل إجراءات ملاحقتهم، حيث كانت تُبيَّت الملفات في الدُرْج وتستخدم فقط للتخويف دون أن تمر بأية إجراءاتٍ للبت فيها.

اقرأ/ي أيضًا: الرسالة الحقوقية: تنمر أم تغيير؟

الجديد في الأمر أن مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، قرر السير قدمًا في إجراءات محاكمة القاضي أحمد الاشقر على خلفية مقال رأي نقدي ضد سياسات الحكومة السابقة. ولا يحمل المقال من وجهة نظري الخاصة أي أبعادٍ تستوجب التجريم، بقدر ما يحتاج الأمر إلى رسم معايير تضمن حق القضاة في التعبير عن الرأي وتوضح حدودها دون أي بُعدٍ تجريمي، فمقالات الرأي يجب أن تبقى مصانة عن البعد التجريمي ما دامت تتعلق بسياساتٍ عامةٍ ولا تمس بسمعة مواطنين.

أتذكر أن القاضي الأشقر طلب رأيي في ذات القضية مرتين على الأقل. المرة الأولى حين تم تحويله إلى التحقيق في عهد المجلس القضائي السابق بعد نشر مقاله، وكان رأيي الذي استمع إليه في ذلك الحين أنه لا يجوز أن تضع أية جهة قيودًا على حق القاضي في التعبير عن رأيه، ولا يجوز تجريمه على خلفية رأيه، والقاضي عليه من تلقاء نفسه أن يقرر متى ينأى بنفسه عن إبداء الرأي في قضايا عامة ومتى يبدي رأيه، مع ميلي أن يظهر رأي القاضي الحامي للحريات والحق في التعبير عن الرأي في القرارات التي يتخذها في القضايا المنظورة أمامهم، لا في مقالات الرأي، إلا حين يستوجب الأمر أن يخرج القاضي إلى العلن ليبدي رأيه في أمر جلل.

وإبداء القاضي لرأيه في شأن عام يعني أنه هز أركان الدولة، وليس القاضي هنا مجرد كاتب مقال، فللمقالات كتابها، وشأن القاضي يسمو على ذلك.

المرة الأخرى التي أبديت فيها رأيي للقاضي الأشقر كانت بعد علمه بموعد جلسة محاكمته، وقلت له إن "القانون منحك في مثل هذه الحالات الحق في التنازل عن حقك بسرية جلسات المحاكمة، ولك حق طلب رفع السرية عنها، وهذا ما بإمكانك فعله وهو حقٌ مصانٌ لك، وأنت صاحب القرار، وأنا أشجعك على ذلك، وللمجتمع الحق بمتابعة تفاصيل هذه القضية بعد أن حولها المجلس الانتقالي إلى المجلس التاديبي، ويبدو أنه قرر السير بهذا الاتجاه  ورفع السرية عن جلسات مجلس التأديب".

المجلس التأديبي الذي سينظر في قضية القاضي الأشقر يتكون من ثلاثة قضاة يحظون باحترام الجمهور الفلسطيني وثقته، وهم القاضي عبدالله غزلان رئيس المجلس، والقاضيان إيمان ناصر الدين ومحمود جاموس. وبمجرد بدء النظر في هذه الدعوى أمام المجلس التأديبي، ستكون أمامه مهمة توضيح الحدود التي يمكن لقضاة فلسطين فيها التعبير عن آرائهم. فالعالم الحر فيه مدرستان تتعلقان بحق القضاة في التعبير عن آرائهم: مدرسةٌ منفتحة ترى حق القاضي في إبداء رأيه في أية قضية تتعلق في الشأن العام، ومدرسةٌ محافظةٌ ترى أن مهمة القاضي حماية حرية التعبير من خلال القرارات القضائية التي يصدرها دون أن يبدي بآرائه في قضايا عامة تقع خارج حدود الشأن القضائي.

بمجرد بدء النظر في قضية القاضي الأشقر أمام المجلس التأديبي، ستكون أمامه مهمة توضيح الحدود التي يمكن لقضاة فلسطين فيها التعبير عن آرائهم

في فلسطين لم يجرِ من قبل نقاشٌ قضائيٌ أو مجتمعيٌ يتعلق بالحدود والمعايير التي يمكن للقضاة أن يعبروا فيها عن آرائهم، وبالتالي نحن أمام فرصةٍ حقيقيةٍ لصدور حكم قضائي يوضح حدود حرية القضاة في التعبير عن آرائهم، وينهي حالة الجدل التي تتجدد مع كل رأي يبديه القضاة، حيث استُخدِمَ أسلوب تحويل القضاة إلى مجالس تأديبية كوسيلة لتخويف القضاة وثنيهم عن التعبير عن آرائهم، وحان الوقت لجهةٍ قضائيةٍ محل ثقةٍ أن تُبين حدود القضاة في التعبير عن الرأي، وتكفل لهم هذا الحق.

آمل أن تحظى هذه القضية وإجراءات محاكمة الأشقر باهتمام وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، وأن يتيح المجلس التأديبي ومجلس القضاء الفرصة لحضور جلسات المحاكمة، فهي فرصةٌ حقيقيةٌ لخلق تقاليد قضائية عادلة تتعلق بحق القضاة في التعبير عن الرأي أكثر من كونها فرصة لمحاكمةٍ شخصيةٍ لقاضٍ على خلفية مقال رأي، فحرية الرأي مكفولة للجميع بمن فيهم القضاة، وهذه فرصةٌ ليكرس فيها القضاة تقاليد عريقة في حدود حرية التعبير. ويمكن استنباط مجموعةٍ من المبادئ والقواعد السلوكية المتعلقة بحرية التعبير من حيثيات القرار الذي سيتخذ المجلس التأديبي، فقراره مهما كان سيكون سابقة قضائية وفيه ما يبرره.


اقرأ/ي أيضًا: 

القضاء.. عدالة انتقالية أم هيمنة تسلطية

جرّاح القضاء

حجب مواقع بالجملة.. وجهة نظر قانونية