02-يناير-2018

"فلنسلّم بعدمية العصر الذي نعيشه، فهذا أفضلُ ما يمكننا القيام به"، كتبت هذه الجملة مرة على الفيسبوك ولم ألبث أن عدت وخصَّصت رؤيتها لي وحدي، وبقيت هناك، مهملة في زحمة المنشورات القليلة التي أنشرها بين حين وآخر. الجملة كانت تعقيبًا على لاجدوى الاحتجاج، الاحتجاج العالميّ منه والمحليّ.

مؤخرًا، أقرأ بين حين وآخر منشورات على الفيسبوك، أسمَيتُها: "منشورات تخليدُ الذاكرة"، ومصطلح "تخليد الذاكرة" مفهوم شائع في دراسات الذاكرة، وقد استخدمه د. علاء العزة في دراسة له أعدّها عن الذاكرة والزمن والموقف المعرفي، في إطار بحثه في عمليّات تخليد الذاكرة التي يقوم بها الفلسطينييون عن الانتفاضة الأولى وغيرها من الأحداث التي تنتمي إلى "الزمن المقدّس" الفلسطيني، ذاك الزمن الكثيف المليء بالأحداث الكبرى، الحافلُ بـالتاريخ، على النقيض من زمننا الفارغ هذا، الحافلُ بالخيباتِ، وبالتكرار، وباللاجدوى.

  عن زمن فردوسيّ الصورة، بالتشبّع بالمعاني الكبرى. وأخرى، تحكي حكايات الانتفاضة الأولى، وحكايات الانتفاضة الثانية، وحكايات الشهداء، المعتقلين   

"منشورات تخليد الذاكرة". أقرأ فيها بين حينٍ وآخر، عن عام 2011 تحديدًا، وعن اللحظات الكثيفة التي عُبِّئت بالأمل، بالأحلام الكبرى، بالتصوّرات الهائلة عن زمن فردوسيّ الصورة، بالتشبّع بالمعاني الكبرى. وأخرى، تحكي حكايات الانتفاضة الأولى، وحكايات الانتفاضة الثانية، وحكايات الشهداء، المعتقلين. في كلّ لحظة تمرُّ يتذكّر أحدهم حدثًا هائلًا في نظره في الماضي البعيد، يمرُّ الحدثُ بذهنه بتصوّرات قد تكون مغايرة لما كان الحدثُ عليه حقًّا، تصبحُ الكلماتُ هي الحدث، تصبحُ الكلماتُ هي الحقيقة، الكلماتُ التي سيُخلِّدُ بها الحدث بعد لحظاتٍ من تذكّره في منشورٍ على الفيسبوك أو مقالة في مجلّة إلكترونية. لكنّ الحدث انقَضى، وانقَضى أثره واستُبدِلَت صورة الحقيقة فيه، بسطوة الكلمات التي تُخلِّدهُ في الحاضر وتعيدُ خلقه من جديد. وتبقى عمليّات التخليد هذه مستمرّة في إعادة خلقِ الماضي، وفي تعميق الانتماء إليه، والأهمُّ من هذا كلّه: في مسخِ الحاضرِ وتشويهه وإفراغه من أيّ جدوى/ معنى/ قيمة.

"مواليدُ خارج الزّمن"، يطلقُ حسين البرغوثي وصفه هذا على نفسه متسائلًا، ويكملُ: "بقي لي جملٌ يركبه سائحٌ في عنقه: كاميرا؟ خسارة، قلتُ لنفسي، أن تمرّ على سطح الأرض ولا تُغيّر شيئًا أو تترك أثرًا، خسارة يا ابن هذا الإرث العظيم". لطالما كرهتُ الكاميرا، وكرهت السيّاح، وأراهم يتجوّلون في أنحاء المدُنِ ينظرون إلينا، "نحنُ مواليد خارج الزمن"، ككائنات غرائبيّة الأشكال والألوان، يصوّرون عالمنا ويصوّروننا، يلتقطون لحظات مِن حيواتنا، يسجِّلونها في مقاطع فيديو، يدفنونها في الأراشيف، يمثِّلوننا في أذهانهم ويخلقون لنا أسماء/ أشكالًا/ صورًا، كلّها لا تشبهنا ولا هي نحنُ. ربما عاش حسين زمنًا غير هذا الذي نعيشه، إلا أنّه عاش حتى اقترب من لحظات زمننا هذا، زمن السقوط في الزمن، زمن حافل بالهزائم؛ وهناك أحسّ بسقوطه، وبالخسارة المرّة. هي الخسارة التي نعيشها ونحسّها بشكل يوميّ، تلك التي تستوطن صدورنا، ونحن نتساءل عن حقيقة تفاصيل حياتنا اليومية، وندهشُ لتردّي الأحلام والآمال، ونخلِّدُ تلك اللحظات العظيمة التي تمرُّ في زمننا زائرةً لا تلبثُ أن تغادره مسرعةً، كشهرِ كانون الثاني من عام 2011، كأيامٍ أخرى ظنّنا أنها توشكُ على قلبِ التاريخ رأسًا على عقب لكنّها لا تكاد تظهر حتى تعود إلى الاختفاء. ونشعر بالخسارة. ونعود إلى عمليّات التخليد التي تعبّئ جزءًا من وعينا بأنفسنا، هو الذي يقول لنا أنّ هناك زمن في مكان ما يستحقّ العيش فيه.

   الواقع لا يلبث يقدّم لنا الدلائل على ضآلة أهميّة "الجموع" الغارقة في ثقافة القطيع  

قلتُ لنفسي، فلنسلّم بعدمية العصر الذي نعيشه. العصرُ الذي يمتدُّ ربما من منتصف القرن الماضي وحتى الآن. اعتقد البعض اعتقادًا سخيفًا يقول بوجود رأي عام عالمي، وتحديدًا غربي يجب التأثير عليه. إلّا أن الواقع لا يلبث يقدّم لنا الدلائل على ضآلة أهميّة "الجموع" الغارقة في ثقافة القطيع. فالمشكلة من الأزل إلى الأبد هي الدولة/ السلطة، وكل الفلسفات والأفكار، انهارت وتم استيعابها من قبل هاتين اللعنتين الإنسانيتين. وإن سلّمنا أم لم نسلّم بعدمية العصر، فالدّولة/ السلطة، لن تأبه. في لحظة ما من التاريخ الحديث، خرجت هذي الجموع في احتجاج عالميّ على اجتياح العراق وتدميره، كذلك، على المذابح في سوريا، كذلك على اعتبار القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، وكذلك على عدد مهول من الأحداث الدامية التي عرّت مقولات الحداثة والتنوير الأوروبيّة وأيديولوجيات الشرقِ الاستبدادية وأسقطت كلّ شيء من حولها مفضوحًا عاريًا واضحًا أمام حقيقة الدم على الأرض. لكنّ الجموع لم تؤثّر على شيء، وربما زاد خروجها في تسريع عمليّة النسيان والالتفاف حول الحقيقة ودفنها.

وفي النهاية، ليس هناك من "جموع"، يبدو أننا عزّل أمام حواسيبنا ولوحات المفاتيح. أفرادًا معزولين عن بعضهم البعض، كان عليهم أن يشاهدوا مذابح الكيماويّ، ويتفرّجوا على صمتِهم وصمت العالمْ من حولهم. وكان عليهم أن يشاهدوا سقوط العواصم. وكان عليهم أن يشاهدوا اندثار آمالهم واندحارها إلى لاشيء. وأن يلجأوا أخيرًا إلى الكتابة، السينما، الدراما، الموسيقى. أن يعتزلوا السياسة ويسلّموا بموتها وموتِ مجالها الحيويّ. يذكّرني مشهد الغرف الصغيرة هذه، التي قد تكون: "معاملَ صغيرة فيها تخلِّدُ الذاكرة نفسها عن طريق العزلة"، بشخصيّة درامية دائمة الحضور في الروايات والمسلسلات والسينما العربية، والشرقية عمومًا. شخصيّة وحيدة، كبيرة في السنّ، كحسام الرعد في عالم بلا خرائط، كسعيد في مسلسل تعب المشوار، كمحمود في مسلسل غدًا نلتقي، كـ "الجار" في فيلم الزمن الباقي. شخصية دائمة السُكْر، دائمة التذكّر، شخصيّة تعيش في الماضي دائمًا وإذ تصحو من سُكرها على واقع أجوف تهرع مرةً أخرى إلى كأسها وذاكرتها وتسخر من نفسها ومن الآخرين. على ما يبدو هذا مصيرُ الكثيرين منّا، وربّما أصبح مصيرنا منذ الآن و"مِشي الحال".

وقد تكون هذه التدوينة، نوع من "منشورات تخليد الذاكرة"، لكنّها تخلّد نوعًا من الخيبة مترامية الأطراف، وتخلّد هواجس بلاجدوى الكتابة/الفعل/ العمل، أو أي نشاط عموميّ آخر، أمام صلابة واقع انتصار الثورات المضادة على ثورات الشعوب، وسقوطِنا في زمن رديء وتافه.


اقرأ/ي أيضًا:

هل بدأ العالم من القدس؟

الأردنيون والقدس: الملهاة الرسمية، المأساة الشعبية

بلفور.. نحن والهوية