26-يونيو-2024
موسم النبي روبين في يافا

(Library of Congress) موسم النبي روبين في صورة تقدر بأنها من الأعوام 1920-1930

 

موسم النبي روبين احتفال تراثي فلسطيني

لكل مجموعة احتفالاتها وكرنفالاتها التي كانت تقام سنويًا وترسخ عاداتها وتقاليدها، وفلسطين بموقعها الجغرافي المتميز والمتوسط الرابط بين أفريقيا وآسيا، وبوجود الموانئ التي تدعو لمشاركة الثقافات وانفتاحها؛ عن فلسطين قبل النكبة نتحدث؛ فقد كان لها نصيب وافر من هذه المواسم والاحتفالات المرتبطة بالزيارات الدينية سواء ما يرتبط بالأنبياء أو القديسين أو الصحابة، حيث تعد فلسطين أكثر بقاع الأرض ضمًا لأضرحة الأنبياء والمزارات، وما يرتبط بمواسم الحصاد والقطاف والبذار. ومن هذه المواسم ما يعود تاريخه لأكثر من ألف عام مثل موسم النبي روبين، وموسم النبي موسى وموسم المنطار في غزة، إلّا أن الاحتلال الصهيوني والانتداب البريطاني الذي مهد له من قبل قد وقفا في وجه استمرار الكثير منها، وما تزال المحاولة قائمة لمحو ما تبقى من هذه المواسم وذلك لما تحمله من جذور لعادات وتقاليد ترسخ ثبات الفلسطيني بأرضه.

 

قرية النبي روبين والمقام

تقع قرية النبي روبين على بعد 14 كم من جنوب مدينة يافا وعلى نفس المسافة غرب مدينة الرملة، وعلى بعد 3 كم من البحر الأبيض  المتوسط، على الضفة الجنوبية من وادي الصرار. وتعود تسمية القرية نسبة لمقام النبي روبين الموجود فيها. وتعد هذه القرية مأهولة من زمن بعيد إذ كانت تشكل نقطة وصل تجارية مهمة على طريق البحر الذي يعود للعصر البرونزي ومع طريق ميناء قرية يبنا الفلسطينية، وكانت تشتهر فيها أسواق الخيل والأسلحة وقد كان أول نشاط تجاري مؤرخًا فيها يعود لعام 1184. وفي القرية نهر النبي روبين الممتد بطول 3 كم والذي سماه الكنعانيون نهر بعل نسبة لإله الخصب عندهم، وحُرف في اليونانية ليصبح نهر بيلوس. ويقع مقام النبي على الضفة الجنوبية لهذا النهر الذي كان يعج بالقوارب النهرية في موسم النبي روبين.

 

موسم النبي روبين.. كرنفال الفلسطينيين المحمل بالتراث والحياة

كانت التحضيرات لموسم النبي روبين تبدأ في حزيران/يونيو انتظارًا لانتهاء موسم قطاف الحمضيات من بيارات يافا والرملة واللد وقراها.. ليبدأ عند أول هلال في آب /أغسطس الارتحال إلى قرية النبي روبين ونصب الخيام وإقامة الفعاليات والاحتفالات. عدا عن الأسواق التي تحضر هذا الموسم.

 

تاريخ المقام.. وتاريخ موسم النبي روبين 

يعود المقام للنبي روبين ابن النبي يعقوب وشقيق النبي يوسف، وفقًا لموسوعة بلادنا فلسطين للباحث مصطفى مراد الدباغ، وترجح الأقوال أن المقام قد بني على آثار معبدِ كنعاني وأن الموسم بفعالياته واحتفالاته وحتى توقيته يعود لتلك الحقبة، إلّا أن انتهاء الحروب الصليبية ومجيء صلاح الدين الأيوبي هو من أظهر معظم المواسم في المنطقة وجعل في كل مدينة تقريبًا موسمًا خاصًا يجمع القرى المحيطة باحتفالات وفعاليات في أماكن مقدسة أخذت طابعًا يتناسب مع معتقدات سكان المنطقة ليقيمون فيها الاحتفالات والموالد. وقد استمر الاحتفال التراثي هذا من عصر الأيوبيين والمماليك والعثمانيين حتى عام 1946 عندما أوقفه الانتداب البريطاني بدفع من العصابات الصهيونية التي بدأت تستوطن في المنطقة. 

 

فعاليات موسم النبي روبين

تبدأ التجهيزات للموسم مع انتهاء قطاف الحمضيات والبرتقال في حزيران/يونيو لتمتد طوال أشهر الصيف، فهي وجهة صيفية لجميع المدن المحيطة بالمقام الرملة واللد ويافا وكذلك القرى الريفية. وتبدأ المراسم مع ظهور أول هلال في آب/أغسطس من كل عام. ويكون الإعلان عن بدء الموسم بإعطاء الإذن من أوقاف القدس (طيلة فترة الحكم العثماني والانتداب البريطاني)، ومن ثم وصول الإذن إلى أوقاف الرملة ولاحقًا لأوقاف يافا بعد عام 1841. 

زفة الثوب

يبدأ الأهالي بالاحتفالات التمهيدية، وعند الإعلان عن بدأ الموسم تنطلق زفة الثوب من اللد، ثم اليوم التالي من الرملة يليها التوجه إلى يافا في اليوم الثالث، وقد كان المتعارف عليه أن تبدأ من القوافل من يوم الإثنين في اللد وتصل ليافا الأربعاء. حاملين في موكب زفة الثوب (زفة التوب باللهجة المحكية) البيرق كما كان يسمى علم النبي روبين، وهو قطعة قماش بيضاء مستطيلة مكتوب عليها " لا إله إلا الله.. روبين حبيب الله" وكان من المتعارف عليه الاحتفاظ بهذا العلم في مقر لجنة البحارة، وإن دل هذا الأمر على شيء فهو يدل على سلطات ريس البحر ونفوذه حينها.

 

بدأ الموكب

يكون الانطلاق في الموكب من جامع يافا الكبير، ويسير في شوارع يافا القديمة مرورًا بالقلعة، ومن ثم إلى ساحة الساعة والأسواق التجارية. ثم يعودون به لدائرة الأوقاف الإسلامية ويترك حتى يوم الجمعة التالية، ويؤكد على الجميع بأن الجمعة التي ستأتي ستكون زفة الثوب انطلاقًا من دائرة الأوقاف وصولًا إلى موقع المقام.

وكان مما يردد في الزفة:

يا مفتينا يا ضرغام      وبسيفك فتحنا الشام

يا شباب ويا شباب       إحنا ما بدنا انتداب

يا ضحايا يا ضحايا      وإحنا ما بدنا وصايا

يا ثوار ويا ثوار       إحنا ما بدنا استعمار

يا عهود ويا وعود      وإحنا ما بدنا يهود

التوجه لمقام النبي روبين

إذا كان الموسم يبدأ عند أول ظهور للهلال في آب/أغسطس، فغالبًا ما كان يصادف الانطلاق للمقام أن يكون القمر بدرًا. يجتمع الناس على الخيل والجمال والبغال التي زينت لهذا الموكب بالطباشات والتي تدل كثرتها على ثراء صاحبها، ويحملون البيرق، وأعلام فلسطين وأعلام كل من الرملة واللد ويافا، ويلتقون في المخاضة أول تلة روبين في حوال الساعة 9 صباحًا من يوم الجمعة. ويأتي كذلك رجال الدين والشيوخ المرسلين من الأوقاف أصحاب الأصوات الجميلة في الترتيل والأذان منهم الشيخ كامل أفندي السوافيري واعظ قضاء الرملة والمنطقة، والشيخ حسين أفندي حسونة واعظ قضاء يافا والمنطقة، والشيخ إسماعيل أفندي الريماوي مدرس جامع يافا الكبير.

وقد كان الناس يشوبشون (من الشوباش)، ويغنون الأهازيج الموروثة في طريقهم إلى المصيف وهي متنوعة وعديدة؛ لكن مما كانوا يقولون وفقًا لموسوعة يافا الجميلة لعلي حسن البواب:

 

يا رايح على روبين      سلم لي على الحلوين

يا رايح على السكنه      هات لي معك ضمة شكله

بستناكي.. وبستنى        يا بنت الخوري حنا

يا رايح ع المنشية [حي في يافا]       شوف لي وحدة شلبية

يا روبين ويا روبين      يا زهرة الحلوين

يا روبين ويا روبين     يا حلاوتك يا روبين 

كل الناس   بتحبك       يا حلاوتك يا روبين

يا أبو العز والتزيين      جينا لك يا روبين

يا روبين يا أبو الخير     والعز فيك يا روبين

 

نصب الخيام والصواوين

كان العديد من الناس يتوجهون للمقام وينصبون خيامهم ويختارون الأماكن المميزة بجانب عائلاتهم وأصدقائهم قبل انطلاق زفة الثوب، ويكونون باستقبال الموكب في المقام وقد جهزوا الصيوانات والخيم باختلاف أنواعها وفقًا للحالة الاجتماعية والمادية للعائلة. وما أن يصل الموكب حتى يحين وقت صلاة الجمعة ثم تعمد الأوقاف على تقديم الطعام للجميع، وتستمر في إعداده وتقديمه للمصطافين مدة 20 يومًا. كما كانت تباع المياه التي تحمل في تنكات على ظهر الدواب وتتجول بين الخيام بأجور زهيدة.  وقد كان التوافد على الموسم يستمر طيلة وقت الصيف وباختلاف طرق النقل من الحافلات أو سيارات الركوب، أو على الجمال والخيل، إلا أن غالبية أهل يافا كانوا يقدمون بالقوارب الشراعية.

 

الأسواق والنشاط التجاري في الموسم

تنتظم الأسواق في المصيف بخطوط متوازية ومنظمة، فقد كان يغلب نقل جميع التجار لنشاطاتهم التجارية أو جزء منها إلى منطقة موسم النبي روبين، فتنتقل المقاهي والقصابين، والأفران، ومحلات البهارات والبن والمكسرات، ومحال الخردوات، ومحال الأساور والخواتم وغيرها. وقد كانت تخطط الأراضي المحيطة بالمقام من قبل الشرطة ووزارة الأوقاف والصحة ولجنة البحارة وتتعاون لتحدد أماكن مخصصة لنصب الخيام وأخرى للمحال والأسواق، ومناطق للمراحيض العامة. كما كانت تقسم مناطق السكن وفقًا للمدن للحفاظ على خصوصية القادمين للموسم من كل مدينة. وتوزع المهن في صفوف فالحلونجية بصف واحد، يليه الأفران والمخابز وتتقدمهما المقاهي بصف واحد. كما كانت تخصص أسواق للنساء عند ساعة محددة بحماية الشرطة، ويكون من يبيع فيها ويشتري النساء فقط.

 

الذهاب للعمل.. والسهر والترفيه

على الرغم من الانتقال من المدن وحمل الأمتعة كان أصحاب الوظائف والمهن التي لم يكن ممكنًا نقلها يواظبون على الذهاب لأعمالهم يوميًا والعودة للمصيف بعد الانتهاء، فلم يكن يبقى في المدن المجاورة للمقام والقرى إلا من اضطرته الحاجة لذلك. وخلال النهار يذهب الصبية للسباحة في النهر رفقة أمهاتهم اللواتي يجلسن على ضفاف النهر تحت شجر الدوم بانتظار عودة الرجال من أعمالهم. وعصرًا تجرى مسابقات ومنافسات الخيل الشيقة. أما عن فعاليات الترفيه ليلًا فقد كانت تتنوع من جلسات الاستماع للحكواتي أو تجمع الرجال في المقاهي أو على الشواطئ ليلًا، وتجمع النساء معًا على أبواب خيمهن المتقابلة، أو حتى الاستماع للراديو وعروض الأفلام السينمائية والمسرح التي ظهرت في السنة الأخيرة من إقامة الموسم عام 1946.

 

إقامة الأعراس والمناسبات فرصة في موسم روبين

يستمر قدوم الناس من كل حدب وصوب من القرى الفلسطينية والمدن فلا تقتصر المشاركة على المدن الثلاثة، فيأتي العديد من المجدل ومن غزة وقراهما وقد كان يصل عدد المقيمين في الموسم في شهر آب/أغسطس وهو ذروة الموسم حوالي 50000 مصطافًا.

وقد كان الناس يعدون موسم النبي روبين وقتًا مناسبًا لإقامة جلوة العروس في أماكن مغلقة، وحفلات الطهور، وحلاقة شعر الطفل لأول مرة، وحتى الاحتفال بالأعراس وتسيير الزفات في طرقات المصيف، لتستمر الحفلات الغنائية حتى الصباح. كما كان موسم النبي روبين وجهةً لمن يريدون الوفاء بنذورهم وإقامة الموالد الدينية، وجلسات الذكر والموشحات.   

وكانت ترتبط بالموسم حلاوة مخصصة بيضاء اللون وصلبة كان يطلق عليها حلوة النبي روبين.

نهاية المصيف والموسم مع مطرة أيلول

يستمتع المصطافين طيلة شهور الصيف بالهواء العليل والسهرات الصيفية والأسواق الموسمية، لكن ما أن يهطل أول مطر أيلول/سبتمبر، يعمد الناس لفك خيامهم والصواوين ويشرعون بالعودة للمدن والقرى والبدء بتحضيرات الموسم الدراسي الجديد، وتعمد بلدية يافا ودائرة الأوقاف لتنظيف المصيف وتجهيزه للموسم القادم.

 

"يا بتروبني يا بتطلقني".. مثل يحكي إصرار النساء على المشاركة 

كانت النسوة في المدن المجاورة ينتظرن موسم النبي روبين مع الإصرار على المشاركة فيه، فيقفلن مع أزواجهن وعائلاتهن على الهوادج قاصدين المصيف والخيم في الموكب، مما يضفي جمالية على موكب الزفة منظر الهوادج المزينة التي تحمل النساء وكأنها هوادج عرائس. ولا يوجد أكثر توثيقًا للإصرار على المشاركة وحصرًا لمشاعر الترقب للموسم من المثل الشعبي أو القول الموروث على لسان النساء "يا بتروبني يا بطلقني" أو بطرح آخر "روبني أو طلقني" تأكيدًا على حتمية الذهاب مع أزوجهن إلى الموسم.

 

كان آخر موسم في مقام النبي روبين عام 1946، وقد ألغي في عام 1947م بسبب الهجمات المتكررة من قبل الهاغاناه على المدن والقرى المجاورة للمقام، والتي تلاها عمليات التطهير العرقي والنكبة بإخراج الأهالي من أراضيهم في يافا ودفعهم للبحر، ومن ثم الرملة واللد وتهجيرهم القسري دون مأكل أو ملبس وتجريدهم من كل ما حملوه نحو غزة جنوبًا والأردن شرقًا. ودمر المسجد الموجود في مقام النبي روبين، وبقيت المئذنة حتى هدمت عام 1991، وبقي المقام مع تحويله إلى موقع ديني يهودي حصرًا، واستبدل الثوب الأخضر المخملي الذي كان يغطيه والمخطوط بعبارة "لا إله إلا الله.. روبين نبي الله"  بستارة حمراء اللون عليه آية من سفر التكوين "رأوبين أنت بكري، قوتي وأول قدرتي، فضل الرفعة، وفضل العز" (الإصحاح 49 -الآية 3).