يضع أمامنا ملفًا مكدّسًا بالأوراق؛ كتبٌ رسمية وقصاصات من الصحف المحلية، وتواريخ دقيقة يحفظها، لتكون الشاهد المتبقي على حكايته الفريدة في تاريخ النضال الفلسطيني، والتي لم يسلَّط عليها الضوء بما يكفي لتأخذ مكانها الصحيح في هذا التاريخ، نادر عبد الرحيم قاسم حسن (68 عامًا)، احتفظ بملفه هذا ليشهد على عقدين ونصف من الاختفاء.
حكاية فريدة في تاريخ النضال الفلسطيني.. نادر حسن، من قصرة جنوب نابلس، اختفى عن أعين الاحتلال لمدة عقدين ونصف!
انضم نادر لحركة فتح بعد انطلاقتها بثلاثة أعوام، وهو من المؤسسين للحركة في القطاع الريفي في قصرة جنوب نابلس، شارك في عدة عمليات عسكرية، أهمها "معركة جماعين"، التي استشهد فيها رفاقه "محمد فارع" و"عيسى أبو مصلح"، وتمكن فيها من الانسحاب لجهة آمنة.
يقول نادر إنّ مجموعة 607، التي أشرف على تدريبها أشخاص من الخارج، تكوّنت من 25 شخصًا، وكانت أوّل خلية في قرية قصرة. وفي 7 أيلول/ سبتمبر 1969، كُشفت المجموعة بينما كان أفرادها ينقلون السلاح مع شخص من بلدة "قصرة" إلى قرية جماعين في سلة فوقها قطوف من العنب. وعلى إثر ذلك وقعت معركة "جماعين" التي استشهد فيها محمد فارع، وعيسى أبو مصلح، بينما وقع باقي أفراد الخليّة في الاعتقال.
اقرأ/ي أيضًا: "لا تزر أحدًا، لا تستقبل أحدًا".. عن تجربة الاختفاء فلسطينيًا
"معركة جماعين" كما وصفها نادر قسّمت عناصر الخلية إلى شهداء ومعتقلين، و"مختف" واحد، كان هو نادر نفسه الذي رفض الاعتقال وقرر الاختفاء. يقول نادر: منذ ذلك اليوم اختفيت، واستمرّت عملية البحث عنّي لفترة طويلة، وتعرّضت عائلتي للتنكيل والاعتقال، وتمت مداهمة منزلنا على مدار سنواتٍ عدة بحثًا عنّي، إلى أن هدم الاحتلال المنزل الذي يأوي 16 شخصًا.
في تلك الفترة الممتدة لـ 26 سنة، يقول نادر إنّ تغيّرات كثيرة حصلت في العالم الخارجي الذي لم أكن أعلم عنه شيئًا، فقد كنت مختفيًا في قبو صغير في منزل عائلتي بمساحة لا يزيد طولها عن متر مربع لا يتسع إلّا للنوم فقط، ولا أستطيع الوقوف داخله، تزوّج أشقائي وشقيقاتي في تلك الفترة، وكبر أبناؤهم وأنا لا أستطيع أن أمارس حياتي الطبيعية بينهم، كانت دموعي لا تفارقني، فقد كنت أسمع صوت الفرح قريبًا منّي ولا أستطيع مشاركتهم، كنت أرى أفراد أسرتي فقط في المنزل لأنني كنت مختبئًا قربهم، وكان والدي قد أعدّ لي المخبأ لأبقى قريبًا عليهم ويسهّل أمور حياتي السريّة قدر المستطاع.
اقرأ/ي أيضًا: معركة الدريجات: قاتَلوا حتى نفذت ذخيرتهم
حالة الاختفاء ورفض سياسة الاحتلال والتمرّد عليها، لها أثمان ليست سهلة، سواء فيما يتعلّق بالوضع النفسي للمختفي أو حتى بالنسبة لعلاقاته الاجتماعية، هو أو بقيّة أفراد أسرته الحاضنة لتجربته هذه، يقول نادر: "عشت حالة دائمة من القلق والترقّب، كان أولاد شقيقي يراقبون لي المكان، وكانوا عند اقتراب أحدهم، أو في حالة اقتحام جيش الاحتلال البلدة، يتم إعلامي لأخرج فورًا. توفي الكثير من أفراد عائلتي، خالي مثلًا، كنت أشعر بألم لعدم استطاعتي وداعه، إضافة إلى أنّ والدتي كانت دائمة الخوف والقلق، وعند المساء كانت تغلق بوابة المنزل ولا يخرج منها أحد. وكانت علاقات العائلة الاجتماعية خفيفة، وكانوا يحاولون تحاشي الآخرين والمشاكل كي لا يلفتوا الانتباه لوجودي، وعند زيارة عائلتي من قبل الضيوف أشعر بشعور مؤلم واختناق، وأنتظر رحيلهم بفارغ الصبر.
ورغم محاولاته تمضية وقته بالمفيد من خلال الاستماع للراديو لمتابعة الأخبار، وقراءة القرآن والكتب الدينية، إلا أن أيامه كانت تمر بصعوبة بالغة ومعاناة كبيرة، وكان لها تأثير في ضعف إرادته في بعض الأحيان، ففي بعض الأوقات، يقول نادر "كنت أهمُّ بتسليم نفسي لمخابرات الاحتلال وأُنهي تلك المعاناة، إلا أن محاميًا أخبر والدي أنه في حالة تسليم نفسي سيتم تعذيبي بوحشية، نظرًا لما كان يحصل مع الآخرين، فكان الاختباء هو الخيار الأسلم.
انتهت أيام أو سنوات اختفاء نادر في آيار 1995 حيث توجه إلى أريحا بعد دخول السلطة الفلسطينية وسلّم نفسه لجهاز الأمن الوقائي، ليبقى هناك 5 أشهر ليعود بعدها إلى نابلس بعد إعلامه بصدور عفو إسرائيليّ عنه، إلا أن الاحتلال تحفَّظ على بطاقة هويته القديمة التي كانت بحوزته منذ 1968 والتي كان قد سلَّمها لاستصدار بطاقة جديدة ولم يعطه بطاقة هوية جديدة إلا في العام 2014.
إلا أن معاناته لم تتوقف، يقول نادر: عشت بلا هوية، ما جعلني أشعر بالغربة داخل بلدي، ولازمني القلق والخوف، فلم يتبق لدي إثبات عن شخصيتي سوى وصل طلب إصدار بطاقة هوية، وكنتُ أسجّل بناتي على بطاقة هوية زوجتي، كما كانت لديّ صعوبة كبيرة في التنقّل، إضافة لخوفي من الاعتقال لعدم وجود بطاقة هوية لي ، وبقي الأمر هكذا حتى عام 2014.
عاش نادر الاختفاء مرتين؛ أولاهما، وهو يواجه الاحتلال ويرفض إجراءاته، والثاني، وهو يواجه إخفاءه اجتماعيًا ومعيشيًا
عندما خرجت من الاختفاء بعد 26 سنة، يقول نادر، استقبلتني البلدة بطريقة أفتخر بها، فرحت كثيرًا لعودتي حرًا، وعودتي للحياة بعد أن كنت في عداد الأموات بالنسبة للجميع، ولكنني وجدت جيلًا آخر لم أكن أعرفه.
في منزله المتواضع، حيث جلسنا، تحدّث نادر عن مصدر رزقه وإعالة أسرته المكوّنة من زوجته وسبع فتيات، "بعد العودة للحياة الطبيعية، زوَّجني والدي في الشهر الأول من عام 1996، وكان هو من يعيلني، حيث فتح لي دكانًا لبيع الحلويات المتعلقة بالأطفال وبعض المواد التموينية، وحاليًا آخذ مبلغ 700 شيقل من الشؤون الاجتماعية، زوجت اثنتين من بناتي وبقي خمسٌ في المدارس".
يقول نادر إنّه توجّه لشخصيات ومؤسسات حكوميّة علّه يحظى بوظيفة ما، ورغم التوصيات الصادرة عن شخصيّات اطلعت على حالته، إلّا أنّ حاله لم يتغيّر، رغم اتصالاته المتكررة، مستفسرًا عن أيّ تقدم في طلبه.
على صفحات جريدة الاستقلال وبتاريخ 28 تموز/ يوليو1995، نُشر مقال يحمل عنوان "المناضل نادر حسن يروي معاناته ويعبّر عن خيبة أمله لإحساسه بالإهمال". ورغم مرور أكثر من عقدين على ذلك، ظلّ وضع حسن كما هو، دون أن يتغيّر، رغم سنوات التخفي التي قضاها، على أملّ حلّ ملفّه الذي تكدّس بالأوراق والطلبات منذ خروجه للحرية وحتى يومنا هذا.
الترا فلسطين حصل على كتب رسمية موجهة لمختلف الجهات بينها الرئاسة الفلسطينية، لاعتماد الستينيّ نادر حسن، كموظف في إحدى مؤسسات السلطة، ليتمكّن من إعالة إسرته، لكن وعلى مدار سنوات، لم يحدث أي شيء. إليكم الوثائق:
اقرأ/ي أيضًا:
صور | 70 عامًا على هزيمة "الهاغاناه" في شعفاط