لا زال الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، يلقي بظلاله على الوسط الثقافي، وهو ما ظهر واضحًا في تأسيس "رابطة الكتاب والأدباء الفلسطينيين"، و"رابطة الفنانين الفلسطينيين"، في قطاع غزة، بعد أن كان كل من الاتحادين العام "للكتاب والأدباء" و"الفنانين" الفلسطينيين يمثلان الوجه القانوني الأوحد لمثقفي الجانبين في الداخل والخارج.
وترك هذا الانقسام أثرًا واضحًا في موقف المثقفين لدى الجانبين، وبشكل أكبر في قطاع غزة، إذ يقول الكاتب القصصي يسري الغول من غزة، إنّه كعضو في الاتحاد لا يجد اهتمامًا لا من طرف الاتحاد ولا وزارة الثقافة، مضيفًا، "هناك الرابطة التابعة لحكومة غزة، وأخرى لمنظمة التحرير، ووصولنا لهذه الحالة من الانقسام يدعو أن تكون هناك حاضنة حقيقية لكل هذه الاختلافات، وهذه حالة طبيعية بتبني الرأي والرأي الآخر".
الانقسام السياسي أدى لتأسيس رابطتين للفنانين والأدباء في غزة، بعد أن كان الاتحاد العام هو الممثل الأوحد للفنانين والأدباء في الداخل والخارج
ويضيف الغول في حديث لـ"الترا فلسطين"، أنّ على الساسة إعطاء مزيد من الاهتمام للحالة الثقافية وتبنيها، "لأن المقاومة ليست دبلوماسية أو بالسلاح فقط، أيضًا هناك مقاومة بالريشة ولوحة الفنان، ورواية الأديب، وقصّة القاص، وقصيدة الشاعر".
اقرأ/ي أيضًا: في غزة.. صناعة الممثلات زراعة في أرض بور
ويواصل، "ميزانية وزارة الثقافة أقل من 1%، يعني ولا شيء لدعم الثقافة"، داعيًا أن يكون هناك طباعة ونشر، ومعارض فنية وموسيقية، ومسرح، وسينما وما إلى ذلك.
والكاتب الغول له مجموعات قصصية تُرجمت قصص منها إلى عدة لغات، ومنها مجموعة "الموتى يبعثون في غزة"، و"خمسون ليلة وليلى" وآخر إصداراته رواية "غزة 87"، التي طبعها على نفقته الخاصة بتعاون مكتبة سمير منصور في غزة 2017.
ويوضح الغول، أنّ أهم العراقيل التي واجهها كأديب يعيش في غزة، أنّه لا يوجد دور نشر، ولذلك أمام الكاتب خيارات محصورة، فيضطر للطباعة على نفقته الخاصة، إلى جانب أنه لا يوجد توأمة بين دور نشر في غزة وغيرها، فيضطر الكاتب إلى التعاون مع دار نشر خارجية، وقد لا يعرف مصداقيتها وعدد النسخ الحقيقية التي تطبعها، كما أنّه لا يستطيع السفر للمشاركة في معارض الكتب العربية.
ويوضح الفنان فيصل نصر من رام الله، أنّه واجه مع زملائه الفنانين عراقيل كثيرة سببها الانقسام، بسبب عزل غزة عن العالم، هذا إلى جانب تهميش دورهم كفنانين من قبل السلطة منذ تأسيسها.
وبدأ نصر مشواره الفني منذ (19 عامًا) كمؤلف موسيقي، وهو معلّم تلحين الموسيقى للأطفال، ومن أعماله أغنية "دقة قلبك" للشاعر الفلسطيني محمد الحنيني، وأغنية "الأرض النا" للشاعر السوري عمر الفرا، وقصيدة "وطني يعلمني" للشاعر محمود درويش، والكثير من الأغاني الوطنية والتربوية والدينية والعاطفية.
يقول نصر: "كنا نعاني قبل الانقسام من مشكلة التواصل مع فناني غزة، وهم كذلك، لكن إيجاد وسائل التواصل الحديثة حل جزءًا من المشكلة الكبيرة بين غزة والضفة".
الانقسام أدى إلى عزل المثقفين في غزة، ودفع الأدباء إلى التعاون مع دور نشر في الخارج وربما التعرض لخديعة، كما أفشل إنتاج أوبريت فني بالتعاون بين الضفة وغزة
ويضيف نصر في حديثه لـ"الترا فلسطين"، أنّ محاولات جرت قبل عامين تنفيذ أوبريت بين فنانين من رام الله ونابلس والقدس وغزة، لكنّ المشروع باء بالفشل لأسباب عديدة أهمها الانقسام، ومشكلة التواصل في الميدان، إضافة إلى عدم اهتمام السلطة والإعلام الرسمي بالثقافة والفن.
ويقول: "نحن بلد عريق، تراثنا، ثقافتنا، أغانينا، تُسرق من العدو، ومن الصديق أيضًا"، مشيرًا إلى أنّ "كل بلد تعرف من الثقافة والفنون الخاصة بها، وهذا ما تبقى من هويتنا العربية الفلسطينية على هذه الأرض". كما دعا وزارة الثقافة إلى تبني مواقف جديدة وجدية للنهوض بالثقافة في فلسطين.
ويؤكد رئيس معهد ادوارد سعيد الوطني للموسيقى في غزة الدكتور إسماعيل داوود أنّه لا يوجد تناغم بين غزة والضفة على الإطلاق، سواء في الفن أو غيره، إلى جانب وجود هوة كبيرة خلّفها الوضع السياسي الحالي منذ عشر سنوات، وهذا جعل المنطقتان متباعدتان ليس جغرافيا فحسب، بل في كل شيء، وفق تعبيره.
ويقول داوود لـ"الترا فلسطين"، إن الفن في غزة "تجارب فردية وجهد عصامي من الجميع"، وقليل جدًا من الفنانين الذين يجتمعون في عمل مشترك ذو أهمية، "فالكل يلهث خلف مصلحته، وليس هناك أي جهة فعلية تنظم العمل الفني، وما هو موجود عمل عشوائي غير مؤطر".
ويوضح داوود، أن الاتحاد حاول مرارًا أن يكون الحصة القانونية التي تهتم بالفنانين وحقوقهم لتنظيم العمل الفني، "لكنّه فشل في أكثر من مرة لغياب إدارة حكيمة تجعل من الفن هدفًا لها مع شح الإمكانيات المطلوبة".
الفن في غزة تجارب فردية وجهد عصامي، والاتحاد العام للفنانين فشل في تنظيم العمل الفني، وكذلك الأمر بالنسبة للرابطة
وأضاف أن الرابطة كالاتحاد، "لكنها أحسنت قليلًا". وتابع، "مؤخرًا تحاول الرابطة النهوض بالمجال الفني وتطوير الفنانين بعمل ورشات تدريب وندوات في التوزيع الموسيقي والعزف على الآلات والنوتة الموسيقية، وتبقى المعضلة بأنه لا مجال للتنسيق بين ما هو في الضفة وغزة بتاتًا، فالعلاقة بعيدة جدًا وغير موجودة في الواقع".
اقرأ/ي أيضًا: مشهد نابلس الثقافي.. تاريخ من ذهب وحاضر يرثى له
ويدعو داوود إلى إدراج مادة الموسيقى في المدارس والجامعات كتخصص، والاهتمام بتدريس الطلبة وتكوينهم موسيقيًا بإسناد منح دراسية لهم، وإعادة تفعيل اتحاد الفنانين التعبيريين وإعطائه للرجل المناسب".
أمّا المخرج السينمائي سعود مهنا، رئيس ملتقى الفلم الفلسطيني، فيوضح من خلال تجربته أن أهم المصاعب التي واجهها كفنان هي قلة الإنتاج وعدم وجود منتجين وشركات إنتاج لدعم الأفلام والدراما، وهناك أيضًا قصور من الوزارات والسلطة وكل التنظيمات الفلسطينية في الدعم.
ويرى مهنا، أنّ ما أنتجته بعض القنوات الفلسطينية من دراما وأفلام، هي أعمال حزبية لا تجد فيها الوحدة الفلسطينية؛ لذلك تبقى ضعيفة.
ويشير مهنا في حديثه لـ"الترا فلسطين" إلى أنّ إغلاق المعابر وحصار غزة كان عائقًا أمام تطوير السينما الفلسطينية، إلى جانب نظرة المجتمع التي أثرت سلبًا على تطوير مفهوم السينما الفلسطينية.
وعمل الفنان مهنّا مديرًا لدائرة الأفلام في قناة فلسطين، وهو أول من أخرج أفلامًا روائية في غزة، وقد أخرج العديد من الأفلام التي حصدت جوائز، إلى جانب عمله كرئيس لجان التحكيم في مهرجانات عربية ودولية.
من جانبها، اختارت المخرجة الشابة أفنان القطراوي أن تعتمد على ذاتها في مشوارها الفني، إذ بدأت في صناعة الأفلام منذ خمسة أعوام، وامتنعت عن المشاركة في أي نشاط أو فعالية للاتحاد العام للفنانين، أو رابطة الفنانين، بل توجهت نحو المشاركة في مسابقات محلية، وتنفيذ مهام ربحية بالقطعة، وعقود عمل، وفق ما أفادت به لـ"الترا فلسطين".
وتقول أفنان: "لم ننتظر أن يهاتفنا أحد ويقول لنا نود توظيفكم لدينا ولكم دعم أيًا كان شكله"، مشيرة إلى أنها عملت لدى شركات إنتاج بشكل حر، وكانت تشارك في المهرجان الفني الذي يناسبها من خلال إخراج أفلام قصيرة، وقد حازت بذلك على العديد من الجوائز المحلية.
وتضيف أنها في كل عمل تختار فريقًا يشارك في صناعته بجهود ذاتية، ودون تبني أي جهة لتكلفة الإنتاج، موضحة أن ميزانية كل من الرابطة والاتحاد لا تكاد تذكر في الإنتاج، "ومعروف أن صناعة الأفلام قائمة على رأس مال، لكنّهما لم يقدّما أي شيء" حسب قولها.
وزارة الثقافة وكذلك الاتحاد العام للفنانين والرابطة لم تدفع شيئًا في إنتاج الأفلام بغزة، ولا حتى الإعلان عنها، وفي أفضل الأحوال كان هناك تسهيلات لوجستية
وتشير أفنان إلى العمل السينمائي الأضخم في مشوارها "عشر سنين"، الذي كانت أحد فريق كتابته وساعدت في إخراجه، بالتعاون مع شركة إنتاج بين شهري كانون الثاني/يناير، وآب/أغسطس من عام 2017 الجاري، مبيّنة أنّ الفلم كان من إنتاج خاص وتكلفته تجاوزت عشرات آلاف الدولارات، دون أن تتحمل أي جهة المساهمة في دفع أي مبلغ لتساعد فريق العمل الذي اجتهد طيلة عام كامل في العمل بدون أجور.
وأضافت، "حتى على صعيد الدعاية وحشد الناس لحضور الفلم عند عرضه، لم نتلقّ دعمًا حقيقيًا من أحد، وفريق العمل تكفّل بكل شيء من الإنتاج للتسويق"، موضحة أن وزارة الثقافة قدمت تسهيلات لوجستية ومعنوية، إضافة إلى تكريم طاقم العمل من الوزير إيهاب بسيسو، "ولكن في الإنفاق تحملت الشركة العبء. لغاية اللحظة لم نستطع إكمال الجزء الثاني من الفيلم لعجز الميزانية".
جهود إنهاء الانقسام الثقافي، بدأت قبل أكثر من عام وفق ما أفادنا به عبد الخالق العف، رئيس رابطة الكتاب والأدباء الفلسطينيين في غزة، الذي بين أن الرابطة تواصلت مع الاتحاد العام للأدباء والكتاب في الضفة الغربية من أجل دمج المؤسستين، موضحًا أن رئيس الاتحاد عرض عليه مؤخرًا أن يكون عضوًا في الأمانة العامة للاتحاد، ولم يعترض على ذلك، إلا أنّ هذا الملف لا يزال مفتوحًا.
ويقول العف، إنه يجب الآن أن يتحرّك وفد من الاتحاد وكذلك من الرابطة لتوحيد الجهود حتى على المستوى الفردي، مشيرًا إلى أنّ الرابطة "تسعى منذ عام لرؤية ثقافية موحدة من باب التعددية للرأي والرأي الآخر، خلال عقد جلسات متتالية للاتفاق لدمج الجميع في الأجسام الثقافية بما فيها الفنانين وحتى الصحافيين".
هناك جهود تبذل بين رابطة الأدباء في غزة، والاتحاد العام في الضفة، من أجل توحيدهما لكنها لم تثمر عن شيء حتى اللحظة
ويمثّل الانقسام داخل وزارة الثقافة ذاتها أحد أوجه الخلاف الكبير في هذا السياق، إذ تعرض موظفو الوزارة القدامى (المستنكفين) للطرد من مقر الوزارة، يوم الأحد 18 كانون الأول/ديسمبر الجاري، بعد أن أصدرت وزارة الثقافة أوامرها بعودتهم إلى أماكن عملهم، وهو ما استنكرته الوزارة بشدة، وقالت إنه يشكل تصعيدًا مستهجنًا وغير مبرر ضد كل الجهود لطي صفحة الانقسام.
"ألترا فلسطين" اتصل مرات عديدة بوزير الثقافة إيهاب بسيسو لإجراء حوار في هذا السياق، لكن دون جدوى.
وكانت الوزارة أعلنت تشكيل لجان عمل في إطار برنامج ثقافي تم الاتفاق عليه، ويتضمن عددًا من المشاريع والفعاليات الثقافية، من أبرزها تنظيم معرض للكتاب الوطني في قطاع غزة، وفعاليات ثقافية وأدبية لمناسبة إحياء الذكرى الثلاثين لانتفاضة الحجارة، وهو ما سيبقى ربما معلقًا إلى حين تنفيذ خطوات حقيقية أكبر باتجاه المصالحة، فيما يبقى مستقبل الانقسام بين الاتحاد والرابطة غير واضح، ويبدو أنه سيستمر إلى أبعد مما هو متوقع أو مأمول.
اقرأ/ي أيضًا:
مكتبات مثقفي نابلس.. سيرة ضياع وتفريط