إن ما يجري من نقاش حول عرض فيلم ما أو منع رواية هنا، أو مقاطعة حفل هناك، لا يمكن اعتباره نقاشًا واعيًا أو خلاقًا، تحديدًا لأنه يأتيك على شكل أوامر عليا من وزير أو نائب عام، أو من مواطن! فهناك فرق بين النقاش البيزنطي العقيم؛ الذي لا يقدم بل يؤخر، وبين نقاش بنّاء يؤسس لجيل واعٍ قليلًا.
في الحالة الصحية والبنّاءة يكون القرار بعد النقاش، وليس قبله كما يحدث هُنا، كلها قرارات بحجّة وبغير حُجّة بدأت معالمها تتضح من خدش الحياء العام، وانتهت بحجة السلم الأهلي.
أنا الآن أتحدث عن فلم "القضية رقم 23" للمخرج اللبناني زياد دويري، وهو يحمل الجنسية الفرنسية، وقد أخرج قبل سنوات فلم "الصدمة"، الذي كان قد تم تصويره في "تل أبيب" بعد أن مكث المخرج 10 أشهر أو سنة تقريبًا في الداخل المحتل كي يصور الفيلم.
فيلم "الصدمة" لزياد دويري لم يكن بريئًا، ولكنّه ليس أول فيلم شارك في طاقم عمله إسرائيليون، مثل "عمر"، و"الجنة الآن"
قوطِع فيلم "الصدمة" في أكثر من دولة عربية منها لبنان، واعتُبر فيلمًا غير بريء يحاول تبرير أفعال المحتل وتلطيفها ووضعها في قالب إنسانيّ، على الرغم من الآراء التي تقول إن الفيلم كان في صالح الفلسطينيين، وأنّه مقصود بهذه الطريقة كي يصل للعالم، وأن الرسائل المبطنة فيه هي المهمة. لقد شاهدت الفيلم، وهو ليس بهذه البراءة التي يقولون، وفيه من الانتقادات الكثير، وهذا ليس مكانًا لنقد الفيلم من ناحية فنية، وإنما فكرة التطبيع التي رافقت إنتاج الفيلم ومكان التصوير والممثلين.
اقرأ/ي أيضًا: كيف يساهم مناهضو التطبيع في تفتيت الإجماع ضده
هناك العديد من الأفلام التي تم تصويرها وإنتاجها في الداخل المحتل، بعضها ترشح لجوائز، وبعضها كان بين طاقم العمل إسرائيليون، مثل فيلم "عمر"، وفيلم "الجنة الآن". ويقصد بالطاقم كل من عمل في الفيلم من مصورين ومنتجين ومهندسي صوت وإضاءة، وما إلى ذلك. ولا يقتصر الأمر على الممثلين. ولكن لم تحدث هذه الضجة كما حدثت على فيلم المخرج زياد دويري، فماذا يحدث؟
ثمة الكثير من الصدمات والمزاودات والمواقف والتحليلات والتصنيفات، كلها تحت بند "الدفاع عن فلسطين"، وهذه حجة لا يجب أن تنطلي على واعٍ، فكثيرة هي المواقف وقليلة تلك الأهداف المراد خدمتها، وسبب هذا الترنح ثلاثة أمور أساسية:
أولًا: تراكم المفاهيم والأدوات القديمة والبالية التي يحكم من خلالها الفرد الفلسطيني، وهذا يجعلك ترى كيف يحكم الفلسطيني على مواقف تحدث في سنة 2017 بعقلية الإنسان الذي كان يعيش في الانتفاضة الأولى 1987. وأنا لا أعيب على عقلية الانتفاضة الأولى، على العكس تمامًا، كانت هي الأنسب في وقتها؛ على الرغم مما كان يحدث من تجاوزات وفوضى باسم المقاومة، ولكن لكل زمان أدواته وأشخاصه، وهذا الفرق (ثلاثون عامًا) لم يتم تحديث هذه الأدوات والتعريفات، مثل المقاومة السلمية، والمقاومة المسلحة، والتطبيع، والمقاطعة، وغيرها من الأدوات، فتولّد لدينا جيل كامل من الشباب؛ أصبح تائهًا بين المعاني القديمة والحياة الجديدة التي نعيشها، فصار يتخبط تارة ويتضامن تارة، ويقاطع تارة، دونما بوصلة حقيقية، أو مرجع يعود إليه إذا ما أشكلت عليه الأمور.
ثانيًا: الإعلام الإجتماعي ووسائله التي صارت حمى تصيب الكل تقريبًا دون استثناء، فصارت المواقف مجانية، ما عليك سوى أن تنشر رابطًا أو تعيد كتابة رأي أحدهم على أنه رأيك حتى لو لم تقتنع به، فظهرت لدينا أعداد كبيرة من النشطاء، عدد لا بأس به قد لا يدري عن ماذا يكتب، أو لماذا، بقدر أنه يريد أن يجمع الإعجابات من أي مكان كانت، فيكفيك أن ترى أحدهم يبدأ كتابة منشور بجملة "لست متابعًا للموضوع الفلاني ولكنني ضد... أو مع"، أو تجد أحدهم ينشر رأيه بالفيلم الفلاني أو الرواية الفلانية، ويقود الحملات لمنعها وهو لم يقرأها أصلًا.
الإعلام الاجتماعي ولّد لدينا مواقف مجانية، وأظهر نشطاء أغلبهم لا يدرون عن ماذا يكتبون، ولماذا
ثالثًا: الخلط بين الأشخاص والمواقف جعل البعض يشخصن الأمور سواء كان بقصد أو بغير قصد، فتجده تارة لحبه لفلسطين، ومع جهله بالتفاصيل، يبدأ بتوزيع صكوك الوطنية أو العمالة على من يخالفه الرأي أو يوافقه، وتراه يغالي في جعل من أخطأ في موضوع معين أو اختلف معه في الموقف أخطر على القضية الفلسطينية من سبب المشكلة أساسًا.
اقرأ/ي أيضًا: على خلفية التطبيع.. إحالة مخرج لبناني للقضاء
لقد تقرر عرض فيلم "القضية 23" في رام الله، نظرًا لأن الممثل الفائز بجائزة عن دوره في الفيلم فلسطيني، والمهرجان الذي سيعرض فيه الفيلم فلسطيني، والمكان في فلسطين، والقضية التي يعرضها الفيلم تهم الفلسطينيين، خاصة أن البعض منّا لا يعرف الكثير عن الفلسطيني اللبناني، ولا عن التحديات التي يعيشها بشكل يومي.
لقد بدأت حملات المقاطعة للفيلم كون مخرجه هو صاحب فيلم الصدمة الذي يُصنف كعمل تطبيعي، وهذا يجعل فيلمه الجديد أيضًا هدفًا للمقاطعة، بحسب لوائح حركة المقاطعة (BDS)، وحجتهم في هذا أن عدم مقاطعة العمل سيشجع الآخرين – مخرجين وممثلين – على التساهل في موضوع التطبيع، وعلى مبدأ أن الزمن ينسي الذنوب والأخطاء والخيانات.
هذا الموقف صحيح في جوهره، وهو لب وجود حركة المقاطعة، مثل ملاحقة شركات مثل "HP" لأن جيش الاحتلال يستخدم بعض أجهزة HP في تجهيزاته العسكرية، وملاحقة الشركات التي لها أي استثمار في المستوطنات من قريب أو بعيد والدعوة لمقاطتها، وهذا ما حصل مع زياد الدويري.
ولكن دور حركة المقاطعة الكبير في مقاومة الاحتلال والشركات التي تدعمه، لا يجب أن يجعل منها مؤسسة تعمل بالنظام الكنَسَي، تحلل وتحرم بناء على معايير شخصية غير قابلة للنقاش أو التغيير، لأن هذا سيدخلنا في دوامة لن نخرج منها سالمين، ونحن نرمي بعضنا البعض بتهم تلتصق بنا إلى الأبد، كما جرى في حالات التخوين لبعض أبناء شعبنا في الانتفاضة الأولى، وقد بقينا ليومنا هذا نرى آثارها في العائلات الفلسطينية.
كنا قد خُضنا نقاشًا طويلاً بشأن منع رواية "جريمة في رام الله"، وكان المبرر حينها "خدش الحياء العام". لم ننتظر كثيرًا حتى بدأت حجة المنع بالظهور لسبب ودون سبب. ومنها معاقبة صحافي بسبب تصوير موكب رئيس الوزراء، ثم جاء قانون الجرائم الإلكترونية ليعزز المنع والتضييق ويجعله قانونيًا لا مجال للاحتجاج عليه، ثم وصلنا إلى أن يمنع رئيس بلدية عرض فيلم بحجة "الحفاظ على السلم الأهلي"، أليس هذا مضحكًا.
فكرة أن يتم منع عرض فيلم في مهرجان، كان قد رُخَّص من قبل البلدية والحكومة بجدوله الحالي، فقام البعض بعمل حملة لمقاطعة الفيلم، فتجاوب معهم رئيس البلدية ومنع الفيلم بحجة أنه يمسّ السلم الأهلي. هذه الحالة تمامًا كأن أقول لك إنني اشتريت الخبز من اللحام بجانب البيت كي أعد طبق فول لذيذ، في زيارتي لعمتي. أين الترابط والعلاقات في كل ما سبق؟ أين اللجان الفنية والأدبية لترى أين الخلل في الفيلم؟ إذا كان هناك خلل، أين المؤسسات المتخصصة بالمقاطعة ومعايير المقاطعة من هذا؟ لقد أصدرت بيانات هزيلة وغير مقنعة، ولا تناسب حجمها الكبير والقوي؛ ودورها الريادي في هكذا مواقف، ولماذا يمنعه رئيس هيئة مدنية حكومية بحجة أمنية.
دعونا الآن نفترض حالة أخرى غير هذه: ماذا كان سيحدث لو أن زياد دويري قام بعمل فيلم يهاجم إسرائيل ويمجد المقاومة، وعلى فرض أن هذا الفيلم كان الأصدق في وصف همجية الاحتلال وتجاوزاته وجرائمه على شعبنا الفلسطيني، هل سنقبل أن يعرض؟ وما هو موقفنا من المخرج والممثلين والجهات المنتجة، إذا قبلت أن يعرض الفيلم لأنه خدمة للقضية الفلسطينية؟ هذا يعني أنك تتجاوز مخالفته الأولى وتنظر إلى المصالح المتحققة، وهذا صحيح.
ماذا كان سيحدث لو أن زياد دويري قام بعمل فيلم يهاجم إسرائيل ويمجد المقاومة؟ هل سنقبل أن يعرض؟
ولو رفضتَ الفيلم المُفترض بحجة أن مخرجه مطبّع، سيكون موقفك صحيحًا من ناحية، ومن ناحية أخرى مثار سؤال آخر: ماذا على المخرج أن يفعل، أو الممثل، أو المنتج، أو أي شخص أخطأ في حق فلسطين والقضية الفلسطينية، حتى نغفر له تجاوزه الأول أو خطيئته؟ أو هل سنغفر له تجاوزه أصلًا؟ وماذا لو أراد المخرج الرجوع عن موقفه في فيلمه الأول؟ أو ماذا لو أراد السياسي الفلسطيني أن يعود عن موقفه المعروف ويدعم المقاومة؟ هل هذا ممكن في الوعي الفلسطيني؟ وهل هذا ممكن الحدوث؟
خلاصة القول، وهذا ليس إلّا رأيًا شخصيًا، يجب علينا أن نعيد تعريف بعض المصطلحات، مثل التطبيع والمقاومة، والمقاطعة، والسياسة، والمصالح الوطنية العليا. يجب أن نعيد تعريفها بما يضمن مصالح الناس والقضية، ولا عيب في الرجوع عن بعض المواقف إذا كانت لا تخدم الأهداف الحالية، أو تبني مواقف كانت في السابق غير مقبولة لتحقيق مصالح عليا.
هذا كله لا يحدث في ليلة وضحاها، ولا يمكن أن يستمر إلى الأبد، لأننا في كل يوم نخسر من قضيتنا - بسبب عدم اتفاقنا على بعض الأساسيات - ما لا يمكن إصلاحه، ولا ننكر أن الاختلاف مفيد عند حد معين، ولكن لا نريد أن يصبح جدلًا بيزنطيًا يؤدي إلى سقوط قضيتنا.
على زياد دويري أن يعتذر للشعب الفلسطيني، وعلينا عرض فيلمه في رام الله مع الإشارة إلى أنه أخطأ، وأنه لا وصاية على دماغ أحد
ثم إنه على المخرج زياد دويري أن يعتذر للشعب الفلسطيني، وللعرب جميعًا عن فيلمه الأول، وعلينا عرض الفيلم في رام الله مع أمرين، أولهما هو الإشارة إلى أن المخرج أخطأ في فيلمه الأول وموقفه فيه وتصريحاته. وثانيهما هو التأكيد على عدم الوصاية على دماغ أحد في مواضيع تقبل النقاش والتحليل والترجيح، خاصة أننا لا نريد أن ننتج هيئة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، تجبر الناس على أمر ربما لا يعرفون عنه شيئًا أصلًا.
ثم لنتخيل، ماذا لو عرض الفيلم في رام الله، ودعي له كل من يستطيع الحضور من الشعب الفلسطيني، من مثقفين ونشطاء ومسؤولين، ثم أُقيم بعد الفيلم نقاش يستمر حتى لأيام متواصلة حول فكرة المقاطعة والتطبيع والمشاركة، وتخرج لدينا مجموعة من الآراء وصلت جميع المشاركين، وهم من سيختارون، لأنه وبهذه الطريقة ترتقي الشعوب ويزداد وعيها.
من المهم أن أُشير إلى أنني ضد التطبيع جملة وتفصيلًا، في صغيره وكبيره، وأن حركة المقاطعة من أقوى أسلحة الشعب الفلسطيني في الخارج والداخل، وعلينا احترام هذا الأمر جيدًا وفهمه جيدًا، والاختلاف معهم في نقطة أو أكثر ليس إلا اختلافًا في الطريق وليس خلافًا للوجهة المرادة. ومثل ذلك أيضًا التأكيد على أن بعض المواقف تتطلب بعض التروي قبل إطلاقها، ويجب علينا حساب الأضرار جيدًا.
اقرأ/ي أيضًا:
تونس.. جدل تجريم التطبيع يتجدد