16-ديسمبر-2016

أطفال من حلب

كانت الآيات التي تتحدث عن أهوال يوم القيامة تضايقني؛ فكرة أن تتخلى الأم عن طفلها والأخ عن أخيه والحبيب عن حبيبته، فكرةٌ قاسيةً جدًا! كنت صغيرةً وقتها، وعاهدت نفسي أنني ومهما حصل لن أتخلى عن الذين أحبهم، ولن أترك أختي تقع وأهرب دونها لأنجو بنفسي حتى لو أمرني الله بذلك. ثم إن أختي لو احتاجت بعض الحسنات سأعطيها مما لديّ، لما لا؟ فأنا لن أكون سعيدة بالجنة دونها، وسأظلُّ أفكّر بمصيرها المؤلم وبغيابها عنّي.

بداية الاحتجاجات في سوريا، كان كل شيء طبيعيًا وعفويًا. خرج الناس مطالبين بالحرية، الحرية ذاتها التي يموت الفلسطينيون من أجلها منذ عقود

حاولت أن أقنع نفسي بأنه حتمًا هناك تفسير ما لما تقوله الآيات. وأنّ ما ذُكر فيها له أكثر من معنى، وأننا لا يمكن أن نفعل ببعضنا هذا أبدًا. وبدا لي أحيانًا وعندما كنت أيأس من إيجاد أيِّ تفسير أخر، أن الله كان لا بد أن يكون أكثر كرمًا معنا فيما يتعلق بالحب، حتى لا نفعل ببعضنا ما قال إننا سنفعله يوم القيامة.

في الحقيقة كنت أطلب من الله الكثير، وكلما كبرت لم أعد أطلب الأشياء ذاتها، وكلما كبرت أكثر أدركت أكثر كم نحن مسؤولون عن حياتنا بكل ما فيها، وأنّ علينا التوقف عن طلب المعجزات من الله والبدء بالاعتماد على أنفسنا.

قرأت الكثير من المقالات التي تتحدث عن الويلات التي تحدث في سوريا بوصفها ويلات يوم القيامة. لفتتني العناوين وأخافتني الفكرة بأن هذا حقيقي، وأننا نعيشه، وأن اللغة التي كنت أقرأها في القرآن وأتمنى أن يكون لها معنى أخر لا أدركه، باتت صورًا وأخبار أشاهدها بعيني. لم يُخفني أننا نعيش يوم القيامة مُبكرًا، إنما أخافني أنني رأيت أناسًا أعرفهم لا يمدون أيديهم لإخوتهم رغم أنهم يستطيعون.

توقفت عند الكلمات الحماسية المنشورة عن جيش النظام السوري، هناك أغانٍ أيضًا وروابط إخبارية تفيد بأن هناك تضليلًا إعلاميًا عربيًا وعالميًا حول ما يحصل في حلب، قرأت كل ما وقعت عليه عيني، وحتى الأغاني استمعت لها، كنت أريد أن تكون تجربتي في الجهة المقابلة من القصة كاملة تمامًا، قلت ربما.. ربما أستطيع أن أفهم لماذا لا يمد الكثير من الفلسطينيين قلوبهم للسوريين في يوم القيامة هذا؟ والفلسطينيون دون غيرهم أولى بذلك، لأنهم يعرفون معنى كل شيء: الخيمة، القذيفة وثلاجة الموتى.

اقرأ/ي أيضًا: القومجيون العرب كمصيبة عربية!

لم تعد الرؤية لما يحصل في سوريا واضحة. أصبحت القوى المقتتلة على الأرض كثيرة ومتنوعة ولكل منها أجندتها ومموليها، لم تعد المعركة كما كانت أول الأمر بين الشعب والنظام الديكتاتوري بل تعقدت الأمور. تعقد الأمور كان لصالح النظام، وظهرت داعش لتفسد على السوريين ثورتهم، ولتكون حجة للكثيرين ليخذلوا الشعب السوري ويساندوا النظام. وهنا حجب الكثيرون قلوبهم وأيديهم عن الشعب السوري وخذلوه. ولو كان أحد الذين خذلوا الثورة السورية أمامي الأن، كنت سأقول له:

أوّلًا: تذكّر البدايات؛ بداية الاحتجاجات في سوريا، هل تذكر كيف كان كل شيء طبيعيًا وعفويًا؟ كيف خرج الناس مطالبين بالحرية في درعا؟ الحرية ذاتها التي يموت الفلسطينيون من أجلها منذ عقود. كان التحرك شعبيًا تمامًا لا يختلف عمّا حصل في مصر أو تونس، فالأنظمة واحدة، والعودة إلى جوهر الأشياء وأصلها يساعدنا على تحديد موقفنا منها.

ثانيًا: ما هو رأيك في النظام السوري قبل حدوث الثورة؟ وقبل أن تسيطر نظرية المؤامرة التي يتعرض لها على المشهد. هل أعجبك توريث حافظ الأسد الحكم لابنه بشار عام 2000؟ وأنّ آل الأسد يحكمون سوريا منذ أربعة عقود تقريبًا؟ ما رأيك في جهاز المخابرات السوري؟ هل تعلم ماذا قالت المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش، سارة ليا ويتسنفي تقريرها بعنوان "سوريا: يجب حل محكمة أمن الدولة العليا" المنشور على الصفحة الرسمية للمنظمة بتاريخ 24 شباط/فبراير 2009. قالت ويتسن: "باسم حماية "الشعور القومي" تسجن محكمة أمن الدولة العليا في سوريا أكثر من 100 شخص سنويًا"، وأضافت: "السوريون العاديون الذين لا نشاط سياسي لهم بالمرة، لا يمكنهم الدخول في مناقشات خاصة أو تبادل للآراء عن حكومتهم، في مطعم أو في حرمة منازلهم".
ووثقت المنظمة في تقريرها مقاضاة ما لا يقل عن 153 مدعى عليهم خلال عام 2007، بناء على اتهامات فضفاضة تُجرم حرية التعبير. حيث تم اتهامهم بـ"إهانة الرئيس السوري" في محادثات خاصة.

يمكنك البحث وقراءة المزيد عن انتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان منذ تولي حافظ الأسد الحكم عام 1963. وإذا كان كلُّ هذا يعجبك ولا تجد مشكلة فيه، فأنا أفهم دعمك للنظام. أمّا إذا كان لا يعجبك فتذكّر أنّ الشعب عندما خرج أول مرة، خرج من أجل أن يقول لا لكلّ هذا، فلا تجعل صور مقاتلي داعش والنصرة تمحو من ذاكرتك أصل الحكاية!

اقرأ/ي أيضًا: الموت السوري العادي

ثالثًا: يمكن للثورة أن تكون عادلة بينما يتسلقها الكثيرون من أصحاب المصالح الذين سيسمون أنفسهم ثوارًا. يمكنك أن تشكك بمتسلقي الثورة بالقدر الذي تريده، ولكن هذا لا يلغي عدالة الثورة. يبدو ما أقوله غير واضح؟ حسنًا، الفلسطينيون يقاومون الاحتلال الإسرائيلي منذ نحو 70 سنة، وفي ظل موجة المقاومة هذه ظهر الكثيرون ممن لبسوا لباس الثوار وتحدثوا بلغتهم، بعضهم صادق وبعضهم ليس كذلك، ولكنهم ومع الوقت باتوا هم الذين يمثلون القضية الفلسطينية ويتحدثون باسم شعبها، فهل فساد من يمثل القضية الفلسطينية يعني أنّهافاسدة وباطلة؟ إذا كنت تؤمن بأن عدالة القضية الفلسطينية مرتبط بأخلاق من يمثلها، فيمكنك إذًا أن تلعن كل ثورات العالم، وليس فقط السورية.

عندما ترى رجلًا مقتولًا في التلفاز، حاول أن تتخيل كيف سيكون شكله لو استطاع أن يمشي، صوته؟ أسماء أولاده؟ طعامه المفضل؟ 

رابعًا: عندما ترى رجلًا مقتولًا في التلفاز، حاول أن تجعله يشبه أحدًا تعرفه. حاول أن تتخيل كيف سيكون شكل هذا الرجل لو استطاع أن يمشي الآن، كيف هو صوته؟ وما أسماء أولاده؟ وما هو طعامه المفضل؟ يبدو هذا عاطفيٌ جدًا، وكأنه لا يليق بتحليل نشرة أخبار. وبعض مؤيدي النظام يعيبون عن معارضيه تحدثهم بالمشاعر عندما يفسرون مواقفهم وآرائهم، وكأن مشاعر الإنسان شيءُ معيب، يجب أن نضعه جانبًا حتى يستحق رأينا التقدير والاحترام. على العموم هذا التخيُّل ليس كافيًاليجعلك تلعن النظام بالتأكيد، ولكنّه سيمنح قلبك دقيقة ليفكر بألّا تفرح بما يحصل، على الأقل.

خامسًا: لا تدافع عن النظام السوري لمجرّد أنّك تكره غريميه من الأنظمة؟ بالمناسبة يمكنك أن تكره الجميع، ففي هذه المعارك، المختصمون لا يتقاتلون من أجل فكرة، بل من أجل مصلحة. فلا تعتقد أن الملائكة تقاتل الشياطين، وأنّ عليك أن تقف مع طرف ضدّ آخر، في هذه المعارك كلهم شياطين، وحده الشعب هو ملاك هذه الثورة بمطالبه النقية.

اقرأ/ي أيضًا: في حاجة الاستبداد إلى مؤامرة

سادسًا: إذا كنت تعتقد أنّ ما يحصل في سوريا هو تصفية حسابات دولية، فاعتقادك في محله، نعم لقد تحول إلى ذلك. ولكن هذا لا يجعل النظام السوري بطلًا، وليس عليك تشجيعه لأنه يواجه محور الشرّ الأمريكي، فالأشرار يصفّون حساباتهم أيضًا.

سابعًا: اذا كنت لا تطيق النظام السعودي فلا بأس، هذا حقك وحقي. ولكن ما لا يمكنني فهمه كيف تعيب على النظام السعودي تردي حقوق الإنسان في السعودية وأن تتهلل للنظام الإيراني؟ ألا تقرأ الأخبار يا عزيزي؟ ألا تدري أن إيران دولة دينية أيضًا، وبالنسبة للعقوبات والحريات العامة فالوضع لا يختلف بين الدولتين كثيرًا، أرجوك اقرأ حول حقوق الإنسان والحريات العامة هُناك، وهذا مثال آخر سيساعدك على أن تكره الجميع. وتذكّر أن عدوَّ عدوِّك ليس بالضرورة أن يكون صديقك. فهذه خدعة من خدع الحرب.

أنت تدعم النظام السوري وحلفاءه لأنهم أملك الأخير لتحرير فلسطين أليس كذلك؟ هذا خيارٌ حزين حقًا  

ثامنًا: إذا كانت سلوكيات حزبك مخيّبة لآمالك وأحلامك التي نشأت عليها، فأرجوك حاول أن تفهمها وأن تواجه نفسك بأنّك مشوّش، بدلًا من أن تحاول حسم الأمر من خلال تجاهل الواقع وتأويله، ليناسب أفكارك عن حزبك، وحاول ولو مرة، أن تتخلى عن كل ما تعتقد أنه صحيح، وفكر من جديد. فكل هذا الدم يستحق.

تاسعًا: أنت تدعم النظام السوري وحلفاءه لأنهم أملك الأخير لتحرير فلسطين أليس كذلك؟ هذا خيارٌ حزين حقًا، ليس فقط لأنك اخترت أن تجعل ألمك مفتاحًا لتفكيرك وبهذا يسهل استغلالك. بل لأنّك تعتقد حقًا أنّ النظام السوري الديكتاتوري الذي حكم شعبه بالحديد والنار سيمنحك الحرية! وأرجوك لا تسمح لهم باستخدام القضية الفلسطينية كمبرر لكل هذا الدم.

عاشرًا: استخدم قلبك أكثر.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سوريا خطيئة أصلية

يسار فلسطيني.. متآمر على الفلسطينيين!

الثورة الفلسطينية السورية