05-نوفمبر-2017

Photo: Saif dahlah /AFP/Getty Images

رُبع قرن والأرض التي على سفح الجبل أمامهم، تملأ قلوبهم حسرة. يرونها ولا يصلونها، ليطمئنوا على غراس شجرها، أمّا زيت زيتونها فليس بإمكانهم أن يحظوا به. يحدث ذلك حين تكون بنادق الجنود أمامهم، ومن خلفها مستوطنون يستحوذون على كلّ شيء.

  لأوّل مرّة تمكّن مزارعون من عصيرة القبلية جنوب نابلس من الوصول لأرضهم في "بورين" بعد أن حال الاحتلال بينهم لرُبع قرن

اللقاء الأخير بين إبراهيم مخلوف، الذي طوى (56 عامًا) من حياته، وأرضه الواقعة جنوب قرية بورين قضاء نابلس، كان سنة 1988، أي قبل أن تتغوّل مستوطنة "يتسهار"، وتبتلع مساحات من الأراضي، ويسوق الاحتلال ذرائعه الأمنيّة لمنع وصول الأهالي لأراضيهم.

قبل ثلاث سنوات، حاول أن يصل الأرض عندما سمحت قوات الاحتلال بذلك لساعات، وفق شروط خاصة، لقطف ثمار الزيتون، إلّا أنّه وعند الاقتراب من حدود الأرض، هاجم مستوطنون، المزارعين، مُهددين بإطلاق النار نحو من يقترب.

خلال تلك السنوات العجاف، كبرت أشجار زيتون، وهرمت وشاخت ورحلت أخرى، لم يجد الزيتون من يعتني به، فأصحاب الأرض منعوا من الوصول إليها. لا حرث، لا بذار لا زرع. فقط تتقلّب الفصول على الأرض؛ تنمو الأعشاب، تخضّر، وتصفّر، وتذوي، ولا شيء آخر.

اقرأ/ي أيضًا: "طريق الثوار خضرا".. تطويع الجبال الفلسطينية

يروي إبراهيم مخلوف (56 عاما) تفاصيل اللحظات الأولى لدى وصولهم أرض "المرواح" الواقعة على سفح جبل سلمان، إلى الجنوب من قرية بورين جنوب مدينة نابلس شمالي من الضفة الغربية المحتلة، وذلك بعد 25 عاما من الغياب.

قبل أيّام، قرر مخلوف أن يذهب لأرضه المُسمّاة "المراوح" الواقعة على سفح "جبل سلمان"، بعد أن سمح الاحتلال للمزارعين بالوصول إلى أراضيهم لقطف ثمار الزيتون. حمل مخلوف أدواته اللازمة، وقبلها شوقه المعتّق لأرضه، وانطلق.

شقّت عجلات مركبته الطريق الترابي، وصولًا إلى آخر نقطة بالإمكان الوصول إليها ركوبًا. ترجّل إبراهيم مع شقيقه وابن عمه صعودًا نحو الجبل. بعد كل هذا الغياب؛ ترافقهم اللهفة لاسترجاع ذكريات ظلّت عالقة معهم منذ سنوات طفولتهم وبداية شبابهم؛ شجرة البلوط الكبيرة، نبع الماء.

كان الطريق وعرًا، مليئًا بالحجارة والأشواك، لكنّ لا بُدّ من تجاوز كلّ ذلك. سار أصحاب الأرض وهم ينظرون المسافة التي تبقّت لوصولهم شجرة البلوط التي رأوها عن بعد. كانت مظلّتهم في حرّ الصيف ومطر الشتاء، ووقت الراحة والغداء، ذكرياتهم لا تنسى عندها. كانت "البلوطة" الأكثر وضوحًا لهم، ربما لأنّ أشجار الزيتون تعبت من انتظار الغُيّاب، فأنهكتها السنوات.

يسيرون، ويتذكّر إبراهيم كيف كان يخرج برفقة إخوته من قريتهم "عصيرة القبلية" جنوب نابلس، مرورًا بـ "جبل سلمان" الذي التهمه الاستيطان، وصولًا إلى أرضهم "المراوح"، وكيف كانوا يروون أبقارهم من نبع مياه "جنيني"، ويطعمونها من حشائش الأرض.

أرضهم كانت مساحتها عشرة دونمات؛ ستة منها احتوت نحو 90 شجرة زيتون روميّة (مُعمّرة). يقول إبراهيم إنّه كان يمضي أسبوعًا كاملًا مع عائلته، في قطف ثمار زيتونها. فيما دونماتها الفارغة تُزرع قمحًا وشعيرًا.

وصلوا الأرض التي تعرفها ذاكرتهم وقلوبهم وعقولهم، لكنّ عيونهم أنكرتها، ولم تُصدّق ما رأت؛ أين الزيتون؟ كانت أشجار الأرض كبيرة وضخمة، تُعرف عن بُعد. 12 شجرة أحرقتها نيران المستوطنين، قُطّعت الأغصان، اليباس والجفاف في كلّ مكان، نما الشوك وتمدد، وارتفع، وطغى على الأشجار. في المُحصّلة؛ جمعوا 25 حبّة زيتون التقطوها عن شجرة حُرق نصفها والنصف الآخر ظلّ أخضرًا، كما ظلّت "البلوطة".

أمّا عين الماء "عين جنيني" التي تستمدّ مياهها من "بئر عصيرة" الذي سرقه الاحتلال ومنع ماءه عن آلاف الفلسطينيين، فكانت مياهها دائمة طوال العام، حتى في "عزّ الصيف". فقد باتت اليوم جافّة تملؤها الحجارة والأوساخ.. بقيت الذكريات، فقط.

صورٌ وفيديوهات كثيرة التقطها مخلوف وأقاربه لأرضهم، ونشروها عبر فيسبوك، ليُحدّثوا الناس عن فرحتهم بالوصول لأرضهم، وحزنهم على ما رأوه من دمار وخراب أحدثه المستوطنون. التقطوا الكثير الكثير من الصوّر، وكُلّ ما يفكّرون به متى يعودون إلى ذاك المكان مرّة أخرى، لينهوا قصّة غياب جديدة لا يعرفون كم ستطول، وماذا سيحلّ بـ "البلوطة" هذه المرّة.


اقرأ/ي أيضًا:

معصرة أحمد عيسى.. قرنُ ونيف من الحب

غسان كنفاني.. الإقامة في زمن الاشتباك

"أبو المواسم".. فرحة الفلاحين