حتى بعد المشهد الأخير من حياة منفذ عملية شعفاط الشهيد عدي التميمي، لم تتغير تقييمات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية للعملية الأولى: غلب ظنه أن شن الهجوم على مدخل المخيم سيكون آخر عهده بالدنيا؛ الغارة استمرت خمس ثواني وقبل أن يُفرغ مسدسه بالكامل اعتراه خلل، فكان الانسحاب القسري ضرورةً حققتها معطيات الميدان ولم يكن خطةً مدروسةً. انطلاقًا من هذه الفرضية، ساد الاعتقاد لدى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية المختلفة - الشاباك، أمان، استخبارات الشرطة - أن الإيقاع بعدي مسألة وقت في مخيم شعفاط الذي تبلغ مساحته حوالي مئتي دونم فقط، ومحاصر من جهاته الأربع، فيما لم تغادر سماءه طائرات الاستطلاع.
حتى بعد المشهد الأخير من حياة منفذ عملية شعفاط الشهيد عدي التميمي، لم تتغير تقييمات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية للعملية الأولى
في العادة بعد ساعات من وقوع العمليات وانسحاب المنفذين، ينتقل الجهد الميداني العسكري لقوات الجيش وحرس الحدود والشرطة الإسرائيلية، إلى الجهد الاستخباري. لكن في حالة عملية حاجز شعفاط، استمر الجهدان بشكل متوازٍ ومكثف ولم يخب للحظة واحدة وبتنسيق تام، واتخذ طابعًا استعراضيًا موجهًا بشكل صريح لإشباع رغبة الانتقام لدى الجنود والمستوطنين، وأيضًا لتحطيم معنويات الفلسطينيين بطبيعة الحال، بالنظر إلى المخاوف الإسرائيلية من تزايد عمليات من هذا النوع.
العمليات العسكرية والأمنية والشرطية والميدانية - حواجز، مداهمات ليلة، اعتقالات على مدار الساعة - كانت واضحةً أمام الكاميرات، شاركت فيها قوات خاصة من الجيش والشرطة وحرس الحدود، تبدو مهمتها في غاية اليُسر من وجهة نظر عسكرية وأمنية بل وربما مثالية، فالهدف لم يكن قد أعد مخبأ بشكلٍ مُسبق وهو يتواجد في مساحةٍ صغيرةٍ نسبيًا ومغلقةٍ بشكلٍ تام. رغم ذلك استمر الفشل 12 عشر يومًا.
بالنسبة للجهد الاستخباري الرامي لفك رموز أيّ عملية، فيتقاسمه في العادة أولًا جهازا المخابرات الإسرائيلية "الشاباك"، والاستخبارات العسكرية "أمان". يعتمد الأول في جمع المعلومات على العنصر البشري (عملاء، واستجواب أسرى) وعلى الوسائل التكنولوجية الخاصة بالتعقب والتنصت ورسم ملامح السلوك الشخصي. أمّا عمل الثاني فيقتصر على استخدام تقنيات التنصت وتحليل المعلومات والرصد اللحظي الآني المُباشر باستخدام الطائرات المُسيّرة وطائرات الاستطلاع المأهولة. لكن في عملية مطاردة عدي التميمي، شارك طرف ثالث هو استخبارات الشرطة الإسرائيلية، فالقدس جزء من مناطق صلاحياتها، وهي تملك قدرة كبيرة من الناحية التقنية مقارنة باستخبارات معظم أجهزة الشرطة في العالم، لكنها مع ذلك كله تظل أقل في مستواها من "الشاباك" و"أمان".
يملك جهاز "الشاباك" منظومة تُعد من الوسائل التقنية الخاصة به حصرًا، يطلق عليها اسم "الأداة". تجمع باستمرار ومنذ عقود معلومات عن جميع المتواجدين في فلسطين التاريخية، وتسمح ليس فقط بالبحث عن معلومات استخبارية حول شخص في الوقت الحالي وإنما بأثر رجعي، أيّ تحديد مع من تحدث ولمن بعث رسائل نصية، والأماكن التي تواجد فيها في أيّ لحظة وبمن التقى. وصُممت "الأداة" في الأصل خصيصًا لإحباط أي عمليات يُخطط لها الفلسطينيون، وتعتمد على مخزون معلومات سري هائل. لم يكن على علم بأمر "الأداة" إلّا خمسة أعضاء كنيست من لجنة الاستخبارات ورئيس الحكومة، وتم الكشف عنها أثناء جائحة كورونا عندما استخدمت في الكشف عن المصابين والمخالطين.
بعد نجاح عدي التميمي بالانسحاب، تم تصنيفه كـ"قنبلة موقوتة"، حيث قدر المسؤولون العسكريون الإسرائيليون أنه إذا لم يتم اغتياله فسيعيد الكرة. لذلك فإن استخدام "الأداة" أمر بديهي، بل إجراء روتني في مثل هذه الحالات. ورغم أنه ليس من المتوقع أن يستخدم المنفذ هاتفًا محمولًا، لكن التحقيق باستخدام "الأداة"، يتيح التعرف في وقت قياسي على شبكة علاقات الشخص المستهدف، أقاربه وزملاؤه وأصدقاؤه وجيرانه، والأماكن التي تواجد فيها - وبالتوازي مع ذلك يتواصل جمع المعلومات من العنصر البشري. البحث بهذه الطريقة وباستخدام هذه الوسائل في بقعة صغيرة ومحاصرة مثل مخيم شعفاط ليس أمرًا صعبًا، بل كانت بيئة توفرت فيها كافة شروط النجاح نظريًا. طواقم التحقيق تعمل بانفصال وبتنسيق وهناك من يجمع النقاط لتكتمل اللوحة، وهناك من يعمل على قراءتها وثمة من يقترح قراءة أخرى ويطرح احتمالات إضافية، وهناك طواقم تتولى تأكيد أو نفي أي احتمال. وفي تلك الأثناء، تحافظ القوات الخاصة للشرطة والجيش على تجميد مسرح العمليات الاستخبارية.
أما جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان" فيملك قدرات استطلاع من بينها طائرة "تسوفيت" المأهولة التي تنفذ عمليات استطلاع من على ارتفاع 20 ألف قدم، وهي تعمل كـ"غرفة عمليات جوية" على مدار الساعة، لا يُسمع صوتها، رغم أنها تشارك في جميع العمليات، بدءًا من الاعتقالات وحتى الاغتيالات. وهذه الطائرة تنسق أعمالها مع "الشاباك" على الأرض ومع قوات التدخل السريع، وقادرة على إصدار التعليمات لطائرات مسيرة تحلق على علو منخفض. كما أن هذه الطائرة مزودة بكاميرات في غاية الدقة قادرةً على معرفة أشخاص في المناطق المستهدفة.
تاريخ "حرب العصابات" المثير الذي صيغت أدبياته قبل عصر الذكاء الصناعي وتطور قدرات الاستطلاع والتعقب والاغتيال، تقوم على مبدأ صاغه المنظر الأكبر لها، وهو الزعيم الصيني ماو تسى تونغ، الذى قال إن وجود العصابات في محيطها يشبه وجود السمك فى الماء، وإذا أردنا الوصول إلى السمك فعلينا تجفيف الماء. لكن مواصفات وظروف تلك الحرب كما رسمها منظروها لا تنطبق على الضفة الغربية ولا فلسطين بالكامل من الناحية الموضوعية. في حالة عدي التميمي، فهو شخص منفرد انسحب لبقعة صغيرة معزولة محاصرة مُحتلة، ومع ذلك كانت له البحر. أخفته فأصابت الأجهزة الاستخبارية بـ"دٌوار بحر شعفاط". حلق الشبان رؤوسهم للتضليل على وسائل الرصد، كما قرروا عبر وسائل الاتصال ترديد عبارات وكلمات لكي تعترضها منظومات التنصت والتعقب، فكان طوفان من نفس الجمل يصل لأجهزة التنصت. وبذلك تحقق عنصر "التنافر" الذي يعني غرق أجهزة التنصت والاستطلاع بمعلومات ومعطيات متناقضة، تجعل عملية التنبؤ الاستخباري عملية معقدة. فكل العناصر في الميدان الذي كان يراد تجميده ظلت تتحرك بشكل دؤوب على مدار الساعة، على شكل مواجهات تتصدى للقوات في الميدان.
في تلك الأثناء، فإن المطارد الذي أًصاب مسدسه الخلل، كان يخطط لهجوم إضافي. وعاد بمسدسه وتزود بقنبلة يدوية، لينفذ هجوم بعيدًا عن المخيم، متخطيًا حواجز كثيرة. معظم وسائل الإعلام العبرية تحدثت عن الإخفاق، عدد من الخبراء المعتبرين لديها طرحوا ما وصفوه بالأسئلة الصعبة حول الفشل بطرق مختلفة. أمّا ما هو واضح في هذا الغموض، فهو أن عدي التميمي تحول إلى أيقونة للجيل الفلسطيني الجديد، وكما أظهرت تقديرات "الشاباك"، ثمة الآن من يرى في عدي نموذجًا يحتذى ويتحين لحظة التنفيذ.