02-مايو-2019

عُنوة ودون مقدماتٍ وبلا توقف، حملت متابعة وسائل العبرية صبيحة الذكرى التي اختارتها اسرائيل لإحياء المحرقة النازية، موجة جامحة انطلقت من شواطئ الواقع لتغوص في التاريخ القريب، وتطوف في التاريخ، فترى رجال الدين الأوروبيين ودورهم في تبرير جريمة حرق اليهود والغجر وغيرهم، ذلك الدور تواطأ الصهاينة والأوروبيون على إخفائه.

في الصباح اختارت الإذاعة العبرية العامة إحياء ذكرى المحرقة النازية من خلال مشاهدتها بعيون "عرب إسرائيل"، والمقصود هنا "العرب الطيبون"، وهم قلةٌ من الفلسطينيين الذين نجى أجدادهم من التطهير العرقي الذي نفذه الناجون من المحرقة النازية وأبناؤهم بحق الفلسطينيين. "العربي الطيب"، الآن صار يعتبر نفسه "إسرائيليًا"، وطبعًا تبذل آلة إسرائيل الدعائية جهودًا كبيرة لتضخيم نسبة "العرب الطيبون" لتجميل ووجها القبيح في عيون الشعوب العربية.

الصهاينة والأوروبيون تشاركوا في إخفاء دور رجال الدين الأوروبيين في تبرير جريمة حرق اليهود والغجر وغيرهم

"العربي الطيب" الأول الذي تحدث عن المحرقة كان من النقب ويعمل في مستشفى، تعرف على المحرقة بعد أن شاهد الوشم الرقمي على  أذرع المرضى الكبار في السن، وللأمانة ليس في كلامه ما يُعيب، فإدانة حرق البشر ينطلق من أي نفس سوية بشكل تلقائي، لكن كلامه ذكرني بـأقوال "رافي القذر" التي نُشرت قبل أسابيع، وهو ضابطٌ رفيع في جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد"، أشرف على تهجير غالبية أهل النقب بعد حرق خيامهم وقتل بعضهم، مولودٌ  لأبوين كانا من الناجين من المحرقة، قال فيها إنه ليس نادمًا على تطهير النقب من أهله الأصليين، وإنما يندم على الإبقاء على جزءٍ منهم.

اقرأ/ي أيضًا: برغيمان يحاول تنظيف "رافي القذر"

تساءلت في نفسي، إن اختار القدر طرفًا لتأدية دور الضحية في مأساة ما، فهل هذا يعني أنه متفوقٌ أخلاقيًا على السفاح؟  البحث عن إجابة لهذا التساؤل وضعتني أمام فرضيتين، الأولى أن الضحية والوحش يشتركان في منظومة القيم، والفرق في النتائج نابعٌ من ميزان القوى، وذلك جاء إيحاءً من منهج المفكر المصري العظيم عبد الوهاب المسيري، الذي يرى أن فهم الصهيونية واليهودية يتطلب دراستهما بوصفهما جزءًا من الحضارة الغربية، كسائر ما أنجبت تلك الحاضرة من فكرٍ نازيٍ أو فاشيٍ أو ممارسة الإبادة كما فعل الأوروبيون مع الهنود الحمر في أمريكا.

أما الفرضية الثانية فهي أن الناجين من المحرقة من اليهود الذين كانوا يُحتَجزون تمهيدًا لإبادتهم، أصاب أخلاقهم عطبٌ وتملكهم الحقد، وعندما أُتيحت لهم الفرصة صبوا جام غضبهم على الفلسطينيين. لم أحسم أمري بالنسبة لصحة أي من الفرضيتين، ولم أضف فرضياتٍ أخرى.

المتحدثة العربية الثانية للإذاعة عن "المحرقة" كانت شابةٌ عربيةٌ تعمل مرشدة في متحف تخليد ذكرى ضحايا المحرقة، تحدثت عن بداية اهتمامها بقضية المحرقة، كانت طفلة و"فضولها" قادها لسؤال جارتها الناجية من المحرقة، وتحول الفضول لـ"تراكمٍ معرفي" جرى استثماره لشرح مأساة المحرقة لرواد المتحف الناطقين بالعربية، وهولاء ليسوا فقط من "عرب إسرائيل"، بل أيضًا الزوار من الدول العربية يستمعون منها عن المحرقة.

كلام مرشدة المحرقة ذكرني بكلامٍ سمعته قبل أيام للمفكر العربي عزمي بشارة، تمحور حول ضرورة توعية الجيل الشاب بالرواية التاريخية الفلسطينية. بالمناسبة، فإن الناجية من المحرقة التي أخبرت حفيدة الناجين من التطهير العرقي -المرشدة- عن فظاعة النازية، لم تلاحظ أنها تقيم في منزلٍ بات أهله في يعيشون في مخيمات لبنان بعد أن شردتهم الصهيونية.

ترفع مجندةٌ هامتها إحياءً لذكرى المحرقة وضحاياها، بينما الجنود يسحلون مسنًا على الأرض في يطا

دوَّت صافرات الإنذار إحياءً لذكرى ضحايا المحرقة النازية، وفي نظرة خاطفة إلى "فيسبوك" لفتت انتباهي مجموعةٌ من الصور نشرها للتو ناشطٌ حقوقيٌ إسرائيلي تُصور مشهدًا سرياليًا. صافرات الإنذار تداهم مجندة أثناء عملية هدم مضارب بدوية في يطا، المجندة ترفع هامتها تقف دقيقة صمت على الضحايا فيما يسحل الجنود مسنًا على الأرض والجرافة تواصل الهدم. هذا المشهد حال دون إضافة فرضياتٍ أخرى أو حذف الفرضيتين بشأن أخلاق ضحايا المحرقة.

موقع "ماكو" الإخباري التابع لشركة الأخبار "كيشت"، أوحى بفرضيةٍ عن علاقة النازية والصهيونية وإقامة "دولة إسرائيل" على أنقاض المدن والقرى الفلسطينية من تقرير حمل عنوان: "السلاح الذي حالوا من خلاله إبادة اليهود أعان في أقامة الدولة". وفي الخلاصة أن بن غوريون قرر استيراد بقايا سلاح النازية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية الذي كان موجودًا في دولة التشيك - سلوفاكيا التي كانت تنتمي للكتلة الشرقية الموالية للاتحاد السوفيتي، وبذلك صار سلاح النازية بتواطئ الكتلة الشرقية المعادية للاستعمار ونصيرة الشعوب بيد الصهيونية تقتل فيه الفلسطيني وتقتلعه من دياره.

تقرير ماكو تضمن صورة لمائير هار تسيون يحمل رشاشًا من طراز 40MP  الألماني الصنع الذي كان يستخدمه جنود الشرطة السرية النازية "الغستابو" أثناء ملاحقة اليهود. هار تسيون هذا كان نائب أرائيل شارون وشارك  في قيادة الكثير من المجازر من بينها مذبحة قبية ومجازر أخرى في غزة، كتب عن إحداها التي اعترف بأنها أسفرت عن مقتل 40 شخصًا في مذكراته: "كنا مسرعين بين البيوت، فيما البشر يتراكضون من الخوف في الأزقة الضيقة. رشقات الرصاص المتقطعة كانت تُسمع من كل اتجاه،  يختلط بالعويل الفظيع المنطلق من بين البيوت. هل جموع هؤلاء البشر الذين أطلقوا الصراخ والعويل هم العدوّ؟ بماذا أخطأ هؤلاء الفلاحون؟".


اقرأ/ي أيضًا: 

شارون تفاخر بمذبحة قبية أمام بن غوريون

دماء الهنود الحمر من أجل غسل ذنوب إسرائيل

أسئلة المستعمِر.. وبلاغة إجابات المستعمَر