07-فبراير-2017

كم نحن تُعساء! منذ أوّل خبر عاجل كنت قد تمكّنت من تهجئته، أذكر تمامًا حينها كنت أمرّ على حروفٍ سريعة أضعت نصفها في خط أحمر ضيّق أسفل الشاشة أغفلتني عن مشاهد لم يكن ينصح بها إلّا من هم +18 ، لكنّي حالما التفت إلى والدي المتربَع على يميني تلقّيت الخبر من ملامحه التي بدت وكأنها تذوق المُرّ.

"أناديكم..

وأشد على أياديكم..

وأبوس الأرض تحت نعالكم..."

هكذا كان يردد التلفاز وكذلك الراديو، حتى صار هذا الشعار معتمد، كلما سمعناه فهمنا أن هناك شهيد، حفظته عن ظهر قلب رغمًا عنّي، كنت أردده دون أن التفت حتى إلى حجم الذل فيه، لم أكن أعلم كُنّا ننادي من؟ ونشدّ على أيادي من؟ ونبوس الأرض تحت نعال من؟! لكنّي الآن أدرك تمامًا كل ما كان ينهال على عقل توفيق زياد في تلك اللحظة التي كان يكتب فيها هذا الشعر الحر.

    علينا أن نعيد النظر في أناشيد السلام الوطني التي صار يستغرب كلماتها واقعنا الكاذب!    

ماذا؟ هل فعلاً يفاجئكم أمر هذا الشعر! نعم إنه حرّ بغض النظر عن المأساة التي نحيا، وبعيدًا عن اليتيم العاري الحافي الذي كان ولا يزال يقف أمام الظُلّام، نحن أحرار رغمًا عن أي شيء يقتل الإصرار في شعبنا المكافح، علينا أن نعيد النظر في أناشيد السلام الوطني التي صار يستغرب كلماتها واقعنا الكاذب، واقعنا الذي لا يشبه شيئًا مما نذكره على أوتار لحن السلام ونحن في عزّ القهر الوطني الذي يقشعر الأبدان.

ربما علينا أن نجري تعديلًا على التاريخ لنذكر أن النكبة بدأت 1948 وأن الهدنة الأولى والثانية كذبة كبيرة صدّقناها في وقت كُنّا بحاجة فيه لنلتقط أنفاسنا من التشريد المنهك، فالنكبة صارت أكبر من أن نحصرها في أسود وأبيض، لا أجد أي فرق يذكر بين صور نكبة 1948 وصور نكبة 48 ساعة شهدتها قرية أم حيران في النقب منذ أسبوعين سوى الألوان، حيث صار توثيقنا للأحداث أوضح إلى حد يمكننا من رؤية عين الشمس بنفسها.

أعرف تمامًا زفير الريح في ذاك اليوم الذي تمرّ فيه جنازة، وأعرف تمامًا كيف يبدو الغضب على ملامح المارّين يأخذون على أكتافهم فلسطينيًا آخر إلى الرحيل، صارت مراسيم الوداع جزءًا من مبادئنا حتى في جيناتنا يجيدُها صغارنا قبل الكبار، فإنك مهما حاولت الهروب ستخونك الذاكرة لتعود بك إلى قبلات باردة أودعتها أم الشهيد على جبين طفلها المقتول بالخطأ، وعناق باهت تمارسه طفلة مع صورة لوالدها المحكوم إلى الأبد في مسيرة تضامن، وصراخ أم في المحكمة تطالب بحق مستحيل أن يعود، وإن عاد لن يكون بردًا وسلام على رماد ابنها المدفون.

لنجد لأنفسنا عِملة جديرة بشراء مستقبل أفضل، فعِملة الماضي لا تصلح لشراء شيء من الحاضر.

دعونا لا نكون كالكبريت، نشتعل فورًا وعلى مهلنا حتى ننطفىء، أنا لا أجيد التخمين ولكن الأمس كفيل بأن يجعل الغد ينحني لنا احترامًا وتقديرًا على كلّ ظلم عشناه ولم نبدأه، لكننا سننهيه.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سوق الرابش.. ليست ذاكرتنا وحدنا!

مكة للمسلمين وأمريكا للأمريكيين ومار سابا للرجال!

أريحا خارج السياق