02-ديسمبر-2021

مطلع العام 1953، وبالتحديد يوم الأحد 4 كانون الثاني/يناير 1953 دون عمر الصالح البرغوثي، الوجيه والمحامي والمؤرخ المحلي، اللاجئ إلى مدينة رام الله بعد تشريده عن منزله في القدس الجديدة، في دفتر يومياته: "ذهبت صباحًا إلى دار عارف العارف، أعدت إليه كتابه، وأخذت منه بعض الكتب، وتحدثنا في مواضيع كثيرة، وهو منكب على تدوين أحداث النكبة من جميع مصادرها، فيستقرئ المعلومات من كل شخص شهد، أو سمع، أو روى، من عرب ويهود، وهو عمل مجيد يشكر عليه، إلا أنني لمست فيه ضعف الترجيح في روايتين، إحداهما أقوى من الأخرى، واخشى أن يختلط عليه الكذب بالصحيح".

لم يكن الصالح وحيدًا في تدوينه ليومياته، وإنما كان جزءًا من مجموعة بارزة مما يمكن أن يطلق عليه أبناء "النخبة الجديدة"، التي برزت في فلسطين مع لحظة الاحتلال البريطاني لها

لم يكن الصالح وحيدًا في تدوينه ليومياته، وإنما كان جزءًا من مجموعة بارزة مما يمكن أن يطلق عليه أبناء "النخبة الجديدة"، التي برزت في فلسطين مع لحظة الاحتلال البريطاني لها، وتفاعلوا مع المشروع الاستعماري البريطاني في غير فضاء. وكان العارف أحد هؤلاء، إذ كتب العارف في العام 1956: "إنه لمن دواعي التوفيق أن أكون، منذ عهد الصبا والدراسة في الآستانة، قد درجت على تدوين مذكراتي في يوميات متتابعة، ما انقطعت عنها يومًا واحدًا خلال الأعوام الأربعين المنصرمة. ولقد ازددت شغفًا بتلك اليوميات عندما جد الجد، وصدر قرار التقسيم. فرحت أسجل فيها ما يحدث من الأحداث". وواصل العارف تدوين يومياته، وانبثق عنها بعد سنين مجموعته "أوراق عارف العارف 1970-1973"، التي صدرت في اثني عشر جزءًا عن مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية.

اقرأ/ي أيضًا: أكرم زعيتر.. عن جيش الدفاع!

لكن اختفت جل هذه اليوميات، التي يؤمل أن ترى النور في يوم من الأيام، لتنشر كما نشرت مؤخرًا يومياته في إمارة شرق الأردن، 1926–1929 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وكان يؤمل أن توفر هذه اليوميات مادة أولية يمكن للباحثين المهتمين بتأريخ الأفكار، وبتأريخ التاريخ خصوصًا "التأريخ الفلسطيني" أن يتتبعوا رحلة العارف في عدد من نصوصه التاريخية، ولعل أبرزها على الإطلاق موسوعته "النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود"، التي صدر أول أجزاءها السبعة عن منشورات المكتبة العصرية للطباعة والنشر في صيدا عام 1956. وصدر آخرها في العام 1961 وخصص لصور الحرب، ثم أعيد طبعه في العام 1962 في نسخة انجليزية/عربية.

لكن مثلما حملت يوميات الصالح إشارات على آلية تأليف العارف، وأبرزت وجود نقاش أولي بينه وبين بعض مجاوريه. وُجدت مواد أولية أخرى حفظت بعض ما اختفى، ولعل أبرزها "الرسائل". فالعارف لم يكتفِ بمحاورة مجاوريه، وإنما عمد -كما يبدو- لمراسلة عدد من الشخصيات، مهديًا بعض كتبه، أو طالبًا مصادر أولية، وقراءة أولية نقدية لمشروعه الجديد. من هذه الرسائل، رسائل متبادلة بين الأستاذ أكرم عمر زعيتر (1909-1996) أحد القيادات التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية في مراحلها المختلفة، وأحد أبرز المدونين وحافظي تاريخ هذه الحركة وإرثها الوثائقي، والأستاذ العارف.

أبرز هذه الرسائل، التي ترد كاملة أدناه -أصلها محفوظ لدى أسرة الأستاذ زعيتر التي أذنت بصورة عنها حفظت في أرشيف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات والأمل أن ترى النور قريبًا- رسالة خطها عارف العارف في 17 أيار/مايو 1953 ردًا على رسالة من زعيتر، جاءت تعقيبًا على مسودة مقدمة العارف لكتابه النكبة. أشار العارف في هذه الرسالة إلى بعض ملاحظات زعيتر المتعلقة بلغة العارف، وإلى قيام زعيتر سابقًا بإحالة العارف لنصوص فارقة في تاريخه لعل أبرزها يوميات طه الهاشمي التي كان ينشر بعضها محررة في حلقات في جريدة الحارس العراقية، وكذلك مستلات من مذكرات الوزير السوري محسن البرازي التي نشرت في جريدة الحياة البيروتية.

تفاعل العارف مع زعيتر لم يمر من دون أن يترك أثره وبصمته المباشرة في نص العارف، فبالإضافة لتعزيز مصادره الأولية، فإن العارف استحضر جزءًا أساسيًا مما دونه في هذه الرسالة في مقدمته للجزء اليوم من "النكبة"

لكن أهم ما دون في هذه الرسالة، بيان العارف لرؤيته لدوره، فالعارف في هذه الرسالة، يرد على زعيتر، كما يرد ضمنًا على انتقاد الصالح، باعتبار نفسه "راوية" لا "مؤرخ"، وأن نصه جمع للروايات المختلفة، لتوفيرها للمؤرخين المستقبليين. وانطلقت رؤية العارف من تراث تقليدي، انتقل إليه كما أظهرت رسالته من دراسته الجامعية، التي تفترض ضرورة وجود مسافة زمنية ما بين المؤرخ وموضوعه، وهي رؤية تم تجاوزها جزئيًا في الكتابة التاريخية المعاصرة من خلال ما يعرف ب"تاريخ الراهن".

اقرأ/ي أيضًا: أكرم زعيتر.. بواكير قيامة البنادق

تفاعل العارف مع زعيتر لم يمر من دون أن يترك أثره وبصمته المباشرة في نص العارف، فبالإضافة لتعزيز مصادره الأولية، فإن العارف استحضر جزءًا أساسيًا مما دونه في هذه الرسالة في مقدمته للجزء اليوم من "النكبة". وهذه رسالة العارف:

رام الله في 17 أيار[/مايو] 1953

سيدي الأخ الكريم أكرم لا عدمته؛

تحية واحترامًا. وبعد فإني ارجو أن تتقبل شكري للمطالعات القيمة التي ابديتها في رسالتك المؤرخة في 30 نيسان[/أبريل] في صدد المقدمة. وإنها لمطالعات قيمة للغاية أخذتها بعين الاعتبار، وقد صححت كلمتي في موضعين منها، وهما -لا بد أنك تذكر- عند قولي: ولعلي أنا أيضًا ضللت السبيل.. فقد رأيت أنك على حق في قولك إن مثل هذه المبالغة في التواضع تؤذي الكتاب أكثر مما تنفعه.. ورأيت أيضًا أنك على حق في قولك إن قولي: ما تركت إنسانًا إلا وسألته، ولا حادثة إلا واستنطقتها.. فيه شيء من المبالغة، ولهذا صححته بأسلوب لا يترك مجالاً لمثل هذا الاتهام.

 ودعني أصارحك أيها الأخ العزيز، أنني ما برحت مترددًا في الأخذ بمطالعتك الثالثة، وهي التي تتعلق بالتاريخ. وإني لصادق في قولي أنني: لست أقصد التأريخ. وما أنا إلا (راوية) يروي للناس ما حدث، كما حدث. ولقد ذكرت وأنا اعالج هذه الناحية من الكتاب، ما ظل عالقًا في ذهني من دروس الجامعة، أن التاريخ لا يكتب عادة فور وقوع الحادث. وإنما يكتب بعد وقوعه بسنين. واختلف العلماء في تعيين عدد السنين التي يجب أن تنقضي قبل أن يلفظ التاريخ حكمه. فقال فريق منهم أن ذلك يجب أن لا يقل عن الخمسين، وقال آخرون أن يجوز كتابة التاريخ بعد مضي ربع قرن. ولكن المؤرخ سيكون في حاجة إلى أرقام وأسماء ومعلومات يرجع إليها في كتاباته عندما يحين الوقت الملائم للتأريخ. فيرجع إلى ما دوّنه (الرواة).

وما أنا إلا (راوية) أروي للناس ما حدث. وقد يرويه غيري بأسلوب غير أسلوبي، وبطريقة غير الطريقة التي انتهجها في تدويني. فما على المؤرخ الذي يأتي بعد ربع قرن، أو نصف قرن، أو أكثر، أو أقل إلا أن يقرأ جميع الروايات، ويمحصها! وعندئذ يستطيع أن يؤرخ. والكتاب الذي يكبته باسم (التاريخ) يكون بعيدًا عن الغمز والطعن. ذلك لأن كاتبه غير متأثر بالروح العائلية أو الحزب أو المصلحة الشخصية، كما لو كتبه حين وقوع الحادث.

طلبت من دار الحياة الأعداد التي ظهرت فيها مذكرات المرحوم محسن البرازي، فوصلتني واقتبست منها ما لا بد من اقتباسه. وقد أشرت إلى ذلك في الهامش.

وطلبت من مكتب جريدة (الحارس) البغدادية الأعداد التي ظهرت فيها مذكرات العميد الركن طه الهاشمي. وقد تسلمتها واقتبست منها ما لا بد من اقتباسه.

ويسرني أن أخبرك أنني حصلت على نسخة من التقرير السري الذي رفعته لجنة التحقيق إلى البرلمان العراقي. وأمامي الآن، وأنا اكتب إليك هذه السطور، الكتاب الذي نشره مناحيم بيجن قائد مؤسسة الأرغون اليهودية بعنوان The Revolt وهانذا جاد في مقابلة ما كتبت على ما قرأت في هذه الكتب والوثائق، والله اسأل أن يوفقني.

وختامًا ارجو أن تتأكد من عظيم احترامي لشخصك الكريم، وإعجابي بأدبك الجم، وعلمك الغزير.

ودم لأخيك،

المخلص عارف العارف

ختامًا، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الرسالة جزءٌ من تواصل امتد لاحقًا بين زعيتر والعارف، إذ أرسل زعيتر معقبًا ومصححًا معظم أجزاء سلسلة العارف التالية، كما قدم نقدًا حادًا في بعض يومياته لاختيارات العارف وإغفالاته، وهو نقدٌ تكرر من شخصيات أخرى كالقائد في الجهاد المقدس قاسم الريماوي. وخير ختام بعض رسالة زعيتر تعقيبًا على المجلد الثالث من سلسلة النكبة، التي أرسلها في 2 تشرين الأول/أكتوبر 1959: "[...] من أهم ما أثارني أنباء تلك البطولات التي دونتموها في الكتاب، ففيها وفاء للرجولة، وفيها تسجيل لاندفاعات وطنية يمكن أن تتباهى بها حركتنا القومية، وإني بعد هذا الترحيب الفائق في الكتاب، والتقدير اللائق لجهد صاحب الكتاب أود أن أبدي ملحوظات". وبعد ملاحظات تفصيلية ختم زعيتر: "هذه ملحوظات أعلم أن سيادة الأخ يتلقها بلقاء الرضى، وهي آية دراستي الكتاب واهتمامي به. أحييكم، وأبارك لكم ما حققتم من أمل، وبلغتم من عمل، واستعجلكم البقية مكررًا شكري وصادق ودي واخائي".

رحم الله أساتذتنا، ورزقنا بقارئ كأستاذنا زعيتر!


اقرأ/ي أيضًا: 

زعيتر يكتبني: حطموا الأقلام!

أكرم زعيتر: السجن وقهر من بقي!