05-ديسمبر-2016

في مصنع اقتصر عُمّاله هذه الأيام، على أفراد عائلة واحدة في أحد أزقّة مدينة بيت ساحور، شرق بيت لحم، يعمل محمود فهد الأطرش وإخوته وأبناء عمومته على تقطيع الصدف وتلميعه، تمهيدًا لصنع تحف صدفية، يأخذها السوّاح كتذكار. 

تأخذ التحف والهدايا الصدفية طابعًا فلسطينيًا في الغالب، فهي مجسّمات لأماكن مقدسة عند المسلمين والمسيحيين، وتصنع يدويًا بشكل كامل

العمل في هذه الحرفة بدأته عائلة الأطرش قبل 58 عامًا، وتوارثه الأحفاد عن الأجداد، وفق ما يقول محمود الأطرش لـ "الترا فلسطين"، معتبرًا أنّ العمل في هذا المجال ليس مجرد حرفة، بقدر ما هي تراث فلسطيني يجب المحافظة عليه.

هل فكّرت عزيزي/تي القارئ/ـة في المراحل التي تمر بها الأصداف إلى أن تصل إلى شكلها النهائي كتحف صدفية؟

عادة، ما يتم استيراد الأصداف من دول مثل أستراليا ونيوزيلاندا، وبالطبع يتم استيراد أصناف معيّنة تُعرف بـ shell mother of pearl، وهي الأصداف التي تنتج اللؤلؤ، مع مراعاة أن تكون بحجم وشكل معيّنين.

وتبدأ العملية الأولى بمعاينة صحون الصدف وتقطيعها إلى شرائح مستطيلة عن طريق مناشير خاصة بالصدف، وتسمى هذه المرحلة بـ "السلابة".

ثم تبدأ مرحلة تسوية زوايا الشرائح المستطيلة لكي تصبح زوايا قائمة ويتم صفها كقطع البلاط، بعدها تبدأ عملية الصقل للوجهين العلوي والسفلي، بطريقة يدوية تستغرق وقتًا طويلًا، فكل قطعة تصقل أربع مرات قبل أن تنتقل للمرحلة الأخيرة، وهي لصقها على القطعة الخشبية المراد صنع التحفة منها، ثم تصقل مرة أخرى بعد إلصاقها مع القطع الأخرى، ثم تدهن بمادة "اللاكر" الشفافة، لإعطائها اللمعان والبريق المطلوبين، ولحفظ المخطوطات الحبرية كالآيات والعبارات وغيرها، حيث تطبع في طابعات خاصة، ويخط بعضها خطاطون محترفون.

لكل تحفة صدفية سعرها، كما يقول الأطرش، فالأسعار تبدأ من 50 شيقلًا، وكلما زاد حجم القطعة والزخرفة التي تحملها، والعمل اليدوي الذي تتطلبه، زاد سعرها. وعلى العامل في هذه الحرفة أن يتمتع بخيال واسع وذوق رفيع، ويمتلك أفكارًا إبداعية في التصميم، للخروج بقطع تستطيع المنافسة بقوة.

اقرأ/ي أيضًا: نوبة ضحك وطنية

ويسوِّق الأطرش بضاعته في البازارات السياحية بمدينتي بيت لحم والقدس، إضافة إلى تصدير جزء منها للأردن. كما شارك مصنعه في العديد من المعارض الحرفية حول العالم مثل تركيا وقطر والإمارات وعُمان ومصر وتونس والمغرب والولايات المتحدة.

على العامل في هذه الحرفة أن يتمتع بخيال واسع وذوق رفيع، ويمتلك أفكارًا إبداعية في التصميم، للخروج بقطع تستطيع المنافسة

ويروي أنّ تُحفه الصدفية اختيرت لتكون هدايا وتذكارات لعدد من الشخصيات الرسمية والشعبية حول العالم، حيث حصل بابا الفاتيكان يوحنا بولس السادس على قطعة صدفية كهدية من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، عند زياراته لبيت لحم، وهي عبارة عن قطعة لكنيسة المهد.

كما كان لرئيس دولة الإمارات، الشيخ خليفة بن زايد ووالده الشيخ زايد بن سلطان نصيبًا من هدايا الصدف أهداهما إياها الرئيس الراحل أبو عمار. 

إضافة إلى حصول الرئيس الامريكي باراك أوباما على قطعة صُنعت خصيصًا له بناءً على طلب الرئاسة الفلسطينية عندما زار مدينتي رام الله وبيت لحم عام 2013.

اقرأ/ي أيضًا: الضفة الغربية: زراعة الدخان "عادي" وتجارته ممنوعة

ويتحدث محمود الأطرش كيف تحوّل مصنعه الكبير الذي كان يشغِّل أكثر من 40 عاملًا، إلى مشغل لأفراد العائلة فقط، نتيجة الظروف الاقتصادية، فيقول: اضطرتنا هذه الظروف الصعبة نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج وقلة الطلب والتسويق إلى تسريح جميع العمال على مدار السنوات الخمس الماضية، ليقتصر عمال المصنع على أفراد عائلتنا.

ولم تسلم هذه الحرفة من مضايقات الاحتلال، حيث يروي الأطرش عن خسائر مالية كبيرة لحقت بهم نتيجة احتجاز الاحتلال لحاويات الصدف في الموانئ، ورفع قيمة الغرامات والتخليص الجمركي عليها فصبحت تكلفة تخليصها وإخراجها من الميناء الإسرائيلي أكثر من ثمنها نفسه.

على مدار سنوات طويلة كانت حرفة صناعة الصدف الحرفة الأساسية لأهالي مدينتي بيت لحم وبيت ساحور، إلا أن تكاليفها الكبيرة أدت لتراجع عدد المشاغل التي تصنع التحف الصدفية، وتوجه العديد من هؤلاء الحرفيين لحرفة صناعة التحف من خشب الزيتون، كما يقول الأطرش.

هذه الحرفة تحتاج إلى رأس مال كبير ليتمكن من يعمل بها الاستمرار في عمله والمحافظة على تجارته، فالظروف الحالية ستدفع بكثيرين إلى ترك هذه الحرفة مضطرين، ما لم يكن هناك مساعدة من الجهات الرسمية، وفقًا للأطرش، الذي يطالب بأن تخصص حصة للتحف الصدفة من الهدايا والنثريات الحكومية، كنوع من المساهمة في حفظ هذه الحرفة من الزوال.

اقرأ/ي أيضًا: رومانسية أسرى وزوجاتهم على عينك يا سجان

أمّا الباعة وأصحاب متاجر التحف السياحية أو من يعرفون بـ "السنتوارية" فحالهم لا يختلف كثيرًا عن حال أصحاب مشاغل ومصانع الصدف، كما يقول السنتواري نبيل قجمان، لـ "ألترا فلسطين"، حيث يعانون من كساد كبير، نتيجة تذبذب مواسم السياحة الأجنبية ببيت لحم.

وأثناء مقابلتنا لجقمان داخل متجره، دخلت مجموعة من السياح الأجانب للمتجر، وألقت نظرة على المعروضات من تحف وتذكرات ثم غادرته دون أن تبتاع شيئا، فكان ذلك المشهد خير دليل على حال تلك المتاجر السياحية، على حد وصف قجمان.

ويضيف أن السائح لم تعد تلفت انتباهه تلك التحف الصدفية الأصيلة والثمينة، وينصبّ توجهه للقطع الصدفية المقلدة والتي تعد أقلّ سعرًا ممن تمت صناعتها محليًا.

رئيس غرفة التجارة والصناعة في محافظة بيت لحم سمير حزبون قال لـ "ألترا فلسطين" إن حرفة صناعة الصدف من الحرف الهامة لبيت لحم وتأتي في الأهمية بالدرجة الثانية بعد حرفة صناعة خشب الزيتون، وقد واجهت ظروفًا صعبة خلال الـ10 سنوات الماضية، نتيجة الشروط والمواصفات والمقاييس العديدة المتطلبة في الأسواق العالمية، بسبب اعتماد هذه الصناعة على منتج حيواني بحري. 

أيّا كانت تلك الظروف التي تعصف بحرفة صناعة الصدف في بيت لحم، إلا أن أصحاب تلك الحرفة يصرون على مواصلة نفخ الروح فيها، ليس فقط كحرفة محلية، بل كرسالة وطنية وتراثية فلسطينية إلى العالم أجمع.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

دُور السينما الفلسطينية.. لم يبق إلا الأسماء

الكنافة حين تعطي للمدينة شيئًا من مذاقها

"مفاحم يعبد" تُلاحق إسرائيليًا.. لماذا؟