عاش بين بيّارات قلقيلية؛ كُلّ حياته فيها وعنها، غير أنّ ما حدث عام 1986، غيّر مجرى حياة محمّد داوود، وبات استنشاق الهواء في الحقول وبين الأشجار أمنية تنتظر التحقق منذ 36 سنة.
كان محمّد داوود ابن 26 عامًا حين اعتقله جنود الاحتلال الإسرائيليّ، لكنّه اليوم ابن 60 سنة أمضى أكثر من نصفها أسيرًا يتنقّل بين سجون "إسرائيل"
يقول وائل إنّ شقيقه محمد ظلّ عالقًا في السنة التي اعتُقل فيها، وما قبلها، ذكرياته كُلّها هناك، تقدّم في العمر، غزا الشيب رأسه، وأنهكت الأمراض جسده، لكن عقله وفكره بقي عند تلك اللحظة التي غادرنا فيها إلى ما خلف القضبان.
"كُلّ ما أتخيّله هو ما عايشته في السنوات التي سبقت اعتقالي" ينقل وائل عن شقيقه الأسير، ويضيف "أمّا أنتم خارج السّجن فيدخل عليكم أشياء جديدة كلّ يوم؛ ذاكرتكم تضيف الجديد وتتخلّص من القديم. وأنا أقتات على القصص والذكريات والحكايا والشوارع والناس الذين رأيتهم وتعاملت معهم قبل اعتقالي".
الهاجس الأكبر الذي يتخوّف منه محمد -وفق ما ينقل عنه شقيقه- أن لا يستطيع التأقلم مع الحياة خارج السّجن، يعتقد أن من الصعب عليه التعايش، ويخشى أن "يكون غريبًا".
اقرأ/ي أيضًا: حلّاق في سجن مجدو
قبل اعتقاله، عمل محمّد داوود مزارعًا في البيّارات، تعرّض للاعتقال عدّة مرات، إحداها عام 1976 ولم تزد عن بضعة أشهر. وفي 1986 صادر الاحتلال أكثر من 36 دونمًا من أرضهم، الأمر الذي أزعجه جدًا وهو المعروف بتعلّقه الشديد بالأرض وبالجبل المُصادر. ظلّ يذهب إلى هناك ويتفقّد أشجار الزيتون، تحصل مناوشات بينه وبين المستوطنين الذين كانوا يشقّون طريقًا سيؤدي بعد ذلك إلى مستوطنة سيصير اسمها "الفيه منشيه"، وسيمتد ليربط مستوطنات أخرى ببعضها.
وبعد ثمانية أشهر من مصادرة الاحتلال للأرض العزيزة على قلب محمد داوود، يتعرّض للاعتقال بتهمة تنفيذ عمليّة، وتُصدر محكمة إسرائيليّة حكمًا بسجنه مدى الحياة.
وكانت التُّهمة التي وجّهتها "إسرائيل" في حينه إلى "محمد الطموح الذي لا يقبل الخطأ" كما يصفه شقيقه، "إلقاء زجاجة حارقة على سيارة مستوطنين، ما أدى لمقتل اثنين منهم على الشارع الالتفافي جنوب قلقيلية"، وكان بين القتلى واحدة من قيادات مجالس المستوطنات.
"كان شخصًا بريًا، يحب أرض قلقيلية، ودائمًا ما يسألنا عنها، لا أعلم كيف تحمّل كل هذه السنوات في سجون الاحتلال"، يقول وائل عن أكثر ما يشتاق له شقيقه الأسير، مشيرًا إلى أنّ المنطقة السكنية التي يعيشون فيها حاليًا كانت أرضًا زراعية يطيل محمد المكوث فيها.
أحيانًا ترسل العائلة الصور لمحمد في سجنه، يشعر بالصّدمة، ويكاد لا يصدّق أين وصل البناء، وما يهدّئ من روعه أنّ المناطق الجبلية والعزبة التي سكنها، ما تزال تحافظ على بعض ملامحها.
فقد محمد والده ووالدته والكثير من أقاربه خلال سنوات سجنه
خلال سنوات سجنه، التزم داوود بممارسة الرياضة، وحاز البكالوريوس في العلوم السياسيّة من جامعة القدس، لكنّ تقدمه في السن مكّن منه الصدفية مرض السكري وتساقط الأسنان، والالتهابات في المعدة، واستدعى الأمر استئصال جزء من أمعائه لشدة ما عاناه.
"محمد صامد ولديه إيمان قوي، عندما نذهب لزيارته نهيئ أنفسنا ماذا سنعطيه معنويات وحين أخرج من عنده أكون أنا المبتسم وأنا من أخذ المعنويات، محمد جمل عنده معنويات عالية، دائمًا يقول لنا، إذا بروح بكيس أسمر لا تزعلوا أنا شهيد وبشفع لسبعين منكم، بطلب من الله بكل صلاة انه إذا خروجي من السجن أفضل لي يعجل من خروجي وإذا بقائي أفضل أظل بالسجن"، يقول وائل.
فقد محمد والده ووالدته والكثير من أقاربه خلال سنوات سجنه، وظلّ يحافظ على علاقته مع الأقارب، يتفقّدهم بالسؤال في الزيارات، ويبعث لهم التحايا. ويقول شقيقه إنهم يبعثون له صورًا لأشخاص تربطه بهم معرفة قديمة، فيتذكرهم.
"ميّت عايش" يصف وائل حال شقيقه داخل السّجن، ويقول إنّ اسمه كان مطروحًا في أكثر من صفقة تبادل، لكنّ الاحتلال كان يزيل اسمه في آخر اللحظات إلى جانب أسرى آخرين ممن اعتقلوا قبل توقيع اتفاقيّة أوسلو. ويشير إلى أنهم في قلق دائم عليه، وأحيانًا نفكّر أن الاستشهاد أفضل له من الحياة التي يعيشها "من سنتين ونص ما زرناه، ولا نعرف كيف شكله" مع تقدّمه في السن واستبداد المرض به.
ويبيّن وائل أنّ شقيقه يطلب منهم أنّ لا يصدقوا أي أخبار حول خروجه من السجن "إلّا إذا دخلت الدار عليكم، لإنهم احتمال يرجعونا من الطريق"، يقول ذلك لتجنيبهم الصدمات التي عاشها وعاشوها معه".
وبحسب نادي الأسير فإن الأسير داوود واحد من 25 أسيرًا تعتقلهم "إسرائيل" بشكل متواصل قبل توقيع اتفاقية أوسلو، أقدمهم كريم يونس، وماهر يونس من الداخل الفلسطينيّ.
وتشير بيانات النادي إلى أنّ الأسير داوود أحد الأسرى المرضى الذين يواجهون سياسة الإهمال الطبي المتعمّد (القتل البطيء)، حيث تفاقم وضعه الصحي وخضع لعملية جراحية في الأمعاء خلال 2021، وخاض رفاقه الأسرى خطوات احتجاجية لإجبار إدارة السّجون على تقديم العلاج اللازم له، وما يزال يواجه وضعًا صحيًا صعبًا، جرّاء مرض الصدفية، والمشاكل الحادّة في الأسنان والمعدة، ويعتمد منذ سنوات على تناول السوائل فقط.
اقرأ/ي أيضًا:
الأسير محمد فلنة.. شجرة شامخة في السجون