يأتي عيد الأضحى، ولا يزال مئات المواطنين في عداد المفقودين في قطاع غزة، فقد أصبحت كلمة "اختفى" من أصعب الكلمات التي يمكن أن ينطق بها إنسان لوصف عزيز له في الحرب، بعد كلمة استشهد وجرح واعتقل، وربما تكون أصعب، إذ تبقى في طيات الكلمة كل الاحتمالات ولا إجابة حاسمة عن مصير المفقود تخفف ألم العائلة.
قبل شهر، استيقظت الطبيبة مها كحيل في الصباح الباكر، وتوجهت لتقديم طعام الإفطار والعلاج لأخيها ماهر، 62 عامًا، لكنه لم يكن بالخيمة، التي اضطروا لإنشائها بجانب البيت الذي نزحوا له من رفح إلى مدينة خانيونس، وبات يعيش فيها ذكور العائلة.
لم ينتظر ماهر وعود أخته مها وأسرته، فقد غافل أخيه الذي غلبه النعاس والتعب داخل الخيمة، وخرج ولم يعد منذ ذلك الوقت
بحثت مها عنه في كل أنحاء الخيمة، تقول: "أصبحت كالمجنونة أركض في الخيمة وحولها وفي كل الاتجاهات، وأنا أنادي عليه وبيدي الأكل والأخرى الدواء، لقد اختفى ولم نجده".
ويعتبر ماهر من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويعاني من عدة مشاكل صحية، ويحتاج للمتابعة وتناول الأدوية بشكل منتظم.
"هكذا بكل بساطة اختفى"، تقول مها بـ"قلب حزين"، وتتابع "فهو كطفل كان يرغب بالعودة إلى دارنا وحارتنا في حي الدرج، فقد تكرر طلبه مني أن أعيده لمدينة غزة"، كانت تصبره وتوعده بـ "قرب العودة للمنزل عند انتهاء القصف".
لم ينتظر ماهر وعود أخته مها وأسرته، فقد غافل أخيه الذي غلبه النعاس والتعب داخل الخيمة، وخرج ولم يعد منذ ذلك الوقت حتى إعداد هذا التقرير.
ماهر ليس الحالة الأولى التي تُفقد في خضم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لأسباب مختلفة؛ منها الخيمة التي ليس لها باب يمكن إقفالها، إلى حالة الخوف التي تصيب الإنسان جراء لحظات القصف والاستهداف ومحاولة النجاة بالنفس.
ولم تترك عائلة ماهر مستشفى ولا مركز شرطة وحتى الصليب الأحمر، أو طريقة تمكّنهم من الإعلان عن فقدان ابنهم إلا وطرقتها، ولكن "دون فائدة، لا يوجد له أي أثر لقد اختفى"، ولا تجد مها كلمات يمكن أن تعبّر فيها عما تمر به العائلة، "طوال اليوم نبحث بين الأحياء والأموات، نسأل في كل حارة وفي كل بيت، ولكن لم نصل حتى اليوم لأي نتيجة أو خبر عنه".
ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بقطاع غزة، يكتشف أن هناك فئة جديدة من ضحايا الحرب بعد الشهداء والجرحى والمعتقلين، وهم المفقودين، حيث أصبحت هناك مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي للإبلاغ عنهم، ولعلّ أصعب حالات المفقودين هي للأطفال وكبار السن والمرضى النفسيين والعقليين من جميع الأعمار.
في حال كان الجثمان متحللًا، يتم تصوير ملامحه وملابس ومكان تواجده وأي علامة متواجدة عليه، وتسجّل جميعها لدى مختص، ويحفظ برقم ويدفن لحين وجود شخص يسأل عن نفس المواصفات
ورغم قلة الإمكانات، واستهدافهم بشكل مباشر من قبل جيش الاحتلال، إلا أن مصدرًا في الشرطة أكد لـ"الترا فلسطين": "أن مراكز الشرطة تحاول البحث عن المفقودين، ويتم التعامل مع الشكاوى، بأخذ كافة المعلومات عن المفقود من بيانات وجوالات صاحب الشكوى أو البلاغ، ثم يتم وضع إشارة عمليات لتعميمها عبر الواتس أب على مجموعات العمليات مع نشر صورة المواطن المفقود".
وتابع: "في الوقت ذاته لا يوجد أيّ فريق متخصص بالبحث عن المفقودين بسبب ظروف الحرب، فقط يتم التعامل مع كل إشارة تصل إلى الشرطة بالتعميم، وفي حال وصول معلومات عن المفقود بأنه ميتًا أو حيًا يتم التواصل مع ذويه".
وأضاف: "في كثير من الأحيان يتم العثور على متوفين مجهولين الهوية، وفي هذه الحالة، إن كان الجثمان في حالة جيدة يتم تصويرها ونشر الصور عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويُترك لمدة 3 أيام في ثلاجة المستشفى، وإذا لم يتم التعرف عليه يتم دفنه".
وتابع: "وفي حال كان الجثمان متحللًا، فيتم تصوير ملامحه وملابس ومكان تواجده وأي علامة متواجدة عليه، وتسجّل جميعها لدى مختص، ويحفظ برقم ويدفن لحين وجود شخص يسأل عن نفس المواصفات، فإذا تم التعرف يسجل الجثمان باسم الشخص، ويلغى من قائمة المفقودين".
ويؤكد المصدر أن المشكلة تكمن في "أنه لا يوجد برتوكول خاص لمتابعة حالات الفقد بكل الأعمار والأماكن، فقط الشرطة من تقوم بمتابعة هذا الملف"، وينطبق هذا أيضًا في حالة جمع الجثامين من الشوارع بعد انسحاب جيش الاحتلال، إذ "لا يستلم الإسعاف في الهلال الأحمر أيّ جثمان إلا بعد تسجيله لدى الشرطة، وعملهم يقتصر على جمع الشهداء والمصابين في ساعة القصف".
في حال وصول شهداء إلى المستشفى دون التعرف على هويتهم، يتم تعبئة نموذج خاص وتسجيل المعلومات الضرورية من الشهود الذين أحضروهم
وأكد المصدر أن "هناك أعدادًا من المفقودين، لكن لا توجد إحصائيات دقيقة حتى الآن بشأن عددهم الفعلي. سنحتاج لفترة بعد انتهاء الحرب لتحديد العدد الدقيق، حيث يوجد عدد من الأشخاص المسجلين لدى الشرطة ولم يتم التعرف عليهم بعد".
وبيّن أن عملية التعامل مع الحالات المتعلقة بالمفقودين والشهداء مجهولي الهوية تتم بشكل فعال ومنظم. وأوضح أنه في حال وصول شهداء إلى المستشفى دون التعرف على هويتهم، يتم تعبئة نموذج خاص وتسجيل المعلومات الضرورية من الشهود الذين قاموا بإحضارهم. ويتم استكمال الإجراءات اللازمة لتحديد هويتهم وتسجيل الحادثة.
وأشار المصدر إلى أنه في حال تسجيل أي حالة اختفاء، يتم استخدام أرقام المواطنين الذين قدموا بلاغًا، وليس رقم الشرطة. وعند العثور على المفقود، يتم إبلاغ الشرطة بذلك ويتم حفظ القضية لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
ليس كل من يُفقد في غزة يختفي، بل هناك من يتم العثور عليهم، مثل الطفلة آلاء شاهين، 3 سنوات، التي كانت تلهو مع عددٍ من الأطفال أمام منزلهم في منطقة بطن السمين جنوب مدينة خانيونس عندما فُقد أثرها.
بحث الجميع عنها، والدها وأقاربها لم يناموا طوال الليل وهم يتنقلون من حي إلى حي تحت القصف وطائرات الاستطلاع التي لا تفارق سماء القطاع، يقول عمها: "رغم الخوف الذي عشناه إلا أن الخوف على الطفلة كان أصعب، فقد خفنا من أن يتم استهدافها أو أن تجلس في منزل يتم استهدافه".
وخلال عملية البحث تم تقديم بلاغ بالفقدان للشرطة وللصليب الأحمر، وبحثت العائلة في مستشفيات مدينة خانيونس، ونشرت صورة الطفلة مع معلومات عنها في مواقع التواصل الاجتماعي، وتم العثور عليها بعد ليلة ونصف نهار قضتها آلاء خارج منزلها، "لقد تلقينا اتصالًا من أحد أقاربنا يحدثنا عن مشاهدته صورة طفلتنا على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وتقيم عن عائلة وزودنا برقمها للاتصال بهم".
الصليب الأحمر يواصل دعوة السلطات الإسرائيلية المعنية لاستئناف إبلاغ اللجنة الدولية بمكان وجود آلاف الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، والسماح باستئناف زيارات اللجنة الدولية إليهم وإعادة اتصالهم بعائلاتهم
وتابع العم: "لقد وجدناها تبعد أكثر من 4 كم عن منزلنا، لا نعرف كيف استطاعت المشي كل هذه المسافة، لقد وجدتها العائلة وهي تبكي، فأخذتها واهتمت بها حتى استلمناها".
وقال: "لقد عشنا ساعات صعبة سيطرت علينا الأفكار السيئة، الفقد صعب، ليس بالشيء الهين، ومنذ ذلك الحين قررنا مساعدة أي عائلة بالبحث عن مفقود لديها".
الصليب الأحمر، الذي أقرّ الجميع بتقصيره خلال هذه الحرب وعزوفه عن تقديم المساعدة، برر من خلال المتحدث باسم الصليب الأحمر بغزة هشام مهنا لـ "الترا فلسطين" الأمر، بقوله: "بعد مرور 8 أشهر على تجدد الأعمال العدائية بين إسرائيل وحماس وجماعات مسلحة أخرى في غزة، لا يزال العنف - غير المسبوق من حيث نطاقه وطبيعته - يوقع خسائر بشرية هائلة في جميع أنحاء إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة، وهذا ما جعلنا عاجزين عن تقديم شيء"، بحسب تعبيره.
ولكن في نفس الوقت يرى مهنا "أن الصليب الأحمر وفق الأوضاع قدّم كل ما يستطيع، وذلك استنادًا إلى المهام الموكلة للجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية)، ووجودها الطويل في المنطقة، وبالاعتماد بدايةً على قدرتها الذاتية في التعامل مع حالات الطوارئ، سارعت المنظمة إلى مواءمة استجابتها وتوسيع نطاقها لتلبية الاحتياجات المستجدة في إسرائيل وقطاع غزة".
وتابع مهنا لـ "الترا فلسطين": "للصليب الأحمر عدة أنشطة إنسانية خلال الحرب بما يخص البحث عن المفقودين منها، منها العمل على لمّ شمل العائلات من خلال تيسير الإفراج عن 154 معتقلاً فلسطينيًا، ونقلهم من أماكن الاحتجاز الإسرائيلية وإعادتهم إلى عائلاتهم، واستقبال 8,470 طلبًا من أفراد عائلات يسعون إلى الكشف عن مصير ذويهم وأماكن وجودهم، وذلك عبر القنوات القائمة لدى اللجنة الدولية، والخطوط المباشرة التي أضيفت باللغات العربية والعبرية والإنجليزية للتعاطي مع حالة الطوارئ الراهنة، وجرى حتى الآن إغلاق 2,109 حالات بعد إعادة اتصال هؤلاء الأفراد بعائلاتهم".
وأضاف: "فضلًا عن التواصل مع 6,973 عائلة من عائلات 8,341 فلسطينيًا أُبلغ عن فقدهم في غزة، لجمع المعلومات المهمة التي تساعدنا في الكشف عن مصيرهم وأماكن وجودهم".
وبحسب مهنا، فإن الصليب الأحمر يواصل دعوة السلطات الإسرائيلية المعنية لاستئناف إبلاغ اللجنة الدولية بمكان وجود آلاف الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، والسماح باستئناف زيارات اللجنة الدولية إليهم وإعادة اتصالهم بعائلاتهم، حيث تواصلت اللجنة الدولية مع أكثر من 980 معتقلًا أُفرج عنهم، وذلك لجمع معلومات حول معاملتهم، وظروف احتجازهم.
وأكد أن الصليب يتلقى الاتصالات بشكل مباشر على خط مجاني، وهو 082832400، وبعد أسبوع من تلقي اسم المفقود يبدأ الصليب بالاستعلام عنه مع السلطات الإسرائيلية، وختم قائلًا: "المشكلة عدم استجابة السلطات الإسرائيلية بأي شكل من الأشكال، خاصة على خلفية الاعتقالات التي تعتبر في غزة حالات فقدان، كذلك لا يتدخل الصليب بأي شكل في البحث عن مفقودين داخل غزة".