08-مارس-2017

النظرة الاخيرة على جثمان مهند الحلبي قبل مواراته الثرى - Getty

في يومهم الأخير، صورٌ، قبُلاتٌ، وذكرى أخيرة تركوها لمن أحبوهم وأمضوا معهم سنوات عمرهم، أما كلماتهم فكانت تُنتقى بعنايةٍ شديدةٍ، ربما تجنبًا لإثارة الشكوك، وفي جوفهم مشاعر مختلطةٌ حاولوا قدر استطاعتهم السيطرة عليها، فكانت اللحظة الأصعب بالنسبة لهم عند مغادرة المنزل وعدم الالتفات إلى الخلف حيث يقف أحبتهم، الذين رووا هذه اللحظات.

في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر 2015، وعلى إثر الاعتداءات والانتهاكات التي يتعرض لها المسجد الأقصى، أشعل الشاب مهند الحلبي (19 عاما) الشرارة التي أدت لاندلاع الهبة الجماهيرية، عقب تنفيذه عملية طعن في مدينة القدس.

ترك الشهيد مهند الحلبي خارطة فلسطين هدية لشقيقه في يوم ميلاده، وطلب في آخر ليلةٍ من أبيه الرضا والدعاء

في آخر ليلةٍ له مع عائلته، أراد أن يودعهم لكن دون أن يشعرهم، فبدأ بتقبيلهم مغلفًا ذلك بالمزاح، وقبل أن يتوجه للنوم أعطى شقيقه الأكبر مجسمًا لخارطة فلسطين وطلب منه أن يعطيها لشقيقه الأصغر مصطفى في عيد ميلاده.

في الصباح، توجه شفيق الحلبي إلى غرفة نجله مصطفى ليوقظه من النوم، فوجد مهند نائمًا بجانبه ويحتضنه، سأله لماذا لا تنام في سريرك؟ كان يريد وداع حبيبه مصطفى.

كأي يومٍ آخر، تناول مهند إفطاره، ثم انطلق مع والده إلى موقف سيارات جامعة القدس في مدينة رام الله، ودّعه كما العادة وانطلق إلى جامعته.

الشهيد
الشهيد مهنّد الحلبي

في الثالثة والنصف ظهرًا وبعد انتهاء محاضرته الأخيرة، هاتفت أم مهند نجلها لكنه لم يجب في المرة الأولى، لتعاود الكرّة ويأتيها صوت مهند الذي ستسمعه لآخر مرة، سألته: "مهند أين أنت؟ لماذا لم تجب؟" فقال:" أنا في الجامعة يا أمي كنت بالمحاضرة، رح اتأخر شوي احكي لأبوي عشان ما يقلق".

بعد ساعاتٍ قليلةٍ، وخلال متابعتها مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية، علمت العائلة أن مهند هو منفذ عملية الطعن في شارع الواد بالبلدة القديمة، وقد قتل فيها مستوطنين وأصاب اثنين آخرين، فيما ارتقى هو شهيدًا. 

اقرأ/ي أيضًا: عن شهيد بيت ريما الذي ترك "الحصان وحيدًا"

الفتى أحمد عوض أبو الرب (17 عامًا) من بلدة قباطية قضاء جنين، انتظرته والدته 14 عامًا، حتى رزقت به وشاهدته يكبر عامًا بعد عام، رغم كل المصاعب التي واجهتها بعد وفاة والده، ففي آخر الليالي مع والدته، سألها عن الشهداء ومصيرهم، ما أثار شكوكها ومخاوفها، إلا أنها حاولت طرد تلك الهواجس من داخلها، في حين كان أحمد يخطط بالفعل لعملية طعنٍ عند حاجز الجلمة.

الشهيد أحمد أبو الرب

مع أذان الفجر ليوم الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2015، أيقظت أم أحمد ابنها من النوم كما طلب، وبعد أن صلّى جلس على سريره. وبينما كانت أمه تجلس مع شقيقه الصغير محمد الذي كان يدرس، شاهدت أحمد يلعب في هاتفه لكنها لم تكن تعلم أنه كان يكتب وصيته لهم.

بضعة سطورٍ كتب فيها وصيته بكلماتٍ نابعةٍ من رجلٍ لا من طفل، طلب فيها من أمه ألا تبكي وأن تدعو له، وأن يكونوا عائلة واحدة سعيدة، وأوصى شقيقه الصغير والوحيد أن يصبح رجل البيت من بعده، مؤكدًا أن "شهادة الآخرة أفضل من شهادة التوجيهي".

مع شروق الشمس، طلب أحمد من والدته أن تعد له الإفطار، وعلى طاولة الطعام دار الحديث الأخير بينهما، كان يحاول خلاله أن يمُّدها بالصبر والقوة، فقال لها: "اليوم ستزور والدة الشهيد مهند الحلبي الجامعة الأمريكية، هل رأيتِ يا أمي كيف كانت قويةً وصامدةً خلال تشييع جثمان نجلها؟".

أوصى الشهيد أحمد عوض أبو الرب أهله بأن يبقوا عائلة واحدة سعيدة، وطلب من أمه أن لا تبكيه وتتحلى بالصبر

عندما أراد أحمد الخروج إلى المدرسة، استوقفته والدته على عتبة المنزل وطلبت منه إصلاح كاميرا الهاتف، وبعد أن انتهى أرادت أن تجربها فالتقطت له الصور الأخيرة.

قبل ذهابه شعر بأن في جعبة والدته كلامًا لكنها لا تريد البوح به، وحتى يقطع هذا الشك، قال لها: “يا أمي سيأتي عصرًا معلم اللغة الإنجليزية ليعطيني درسًا، ويوم الخميس سأخرج أنا وأصدقائي لشراء الملابس”.

وفور انتهائه أمسك بحقيبته وغادر مسرعًا رغم نداء والدته له بالعودة لأخذ مصروفه، لكن دموعه منعته من النظر إليها للمرة الأخيرة، وقرر أن يكمل سيره لأنه، ربما، سيتراجع عن قراره إذا نظر في عيني والدته.

اقرأ/ي أيضًا: لا تلووا ذراعنا بالشهداء

في مخيم قلنديا، خطط الصديقان، عيسى عساف وعنان أبو حبسة (20 عاما)، لعملية طعنٍ في مدينة القدس، رغم صعوبة الوصول إليها بسبب جدار الفصل العنصري، وعدم امتلاكهما "هوية القدس الزرقاء" التي تسمح لهما بتجاوز الحواجز.

صبيحة 23 كانون الأول/ديسمبر 2015، استيقظ عنان وبدأ يستعد لمهمته على كلمات وموسيقى أغنية سورية عن الشهادة، وقد ارتفع صوت منشدها ليعم أرجاء المنزل، استحم وبدأ يحلق ذقنه.

عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا، عندما أنهى عنان صلاته واقترب من والديه، قبّل يديهما كما هي العادة، مازح والده قليلاً وقال: "يابا ارضى علي وادعيلي الله يوفقني، أنا لقيت شغل جديد".

خرج عنان من المنزل متوجهًا إلى منزل عيسى، استقبله الحاج ياسين ودعاه للدخول، إلا أن عنان شكره وطلب منه أن ينادي عيسى الذي فضّل أن يمضي وقته في سريره.

نصف ساعة كانت المدة التي يحتاجها والد عيسى ليوقظه من نومه، لكنه في ذلك اليوم وبمجرد أن قال له: “عنان في الخارج انهض”، رآه ينهض ويرتدى أفضل ملابسه ويودع أهله قائلا: "سأذهب اليوم لأساعد صديق".

شاهد الحاج ياسين نجله عيسى وصديقه عنان يتمايلان ضحكًا في طريقهما لموقع العملية

شيءٌ ما بداخل الحاج ياسين كان يدفعه للوقوف على باب منزله، ليرى نجله عيسى وصديقه عنان يتمايلان ويضحكان وكأنهما ذاهبان لرحلة، وخلال مرورهما في المخيم دعا عيسى أحد جيرانهما لحضور خطبته في نفس اليوم الساعة الخامسة.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين ترثي الباسل

الصديقان أحمد زكارنة ومحمد كميل، تعرفا إلى أحمد أبو الرب في تشييع صديقهم الشهيد أحمد عوض، وخططوا معًا مدة 39 يومًا لتنفيذ عملية مشتركة في القدس، تجاوزت حد الحاجز الذي انتهى طريق صديقهم الشهيد إليه، وقد فشل جهاز "الشاباك" بكل ما يتباهى به من قدرة مخابراتية في كشف أمرهم، وإحباط وصولهم للمدينة المحاصرة بالجدار العازل.

في ليلتهم الأخيرة، توجه زكارنة وكميل إلى الحلاّق وطلبا منه أن يكونا بأبهى طلة، قال أحمد: “زبطني بكرة عندي مقابلة”، أما محمد فقال: “بكرة بدي أنزل على جنين أطش”.

التقى زكارنة بأصدقائه، وبدأ يلتقط صور "سيلفي" معهم، كان من الضروري أن يجد مع صديقيه حجة غيابٍ مقنعة عن العمل. زكارنة أخبر عائلته أن لديه جلسة محاكمة في اليوم التالي، وكميل قال لعائلته إنه سيذهب مع زكارنة للمحكمة، أما أبو الرب فتذرع بأنه سيذهب لاستبدال نظارته الطبية التي كان قد فصّلها قبل شهر.

فجرًا، استيقظ ثلاثتهم وصلّوا، ثم أمضى كل واحدٍ منهم وقته الأخير بين أهله حتى تحين الساعة. زكارنة قرر قراءة القرآن، وكميل عاد إلى غرفته وكذلك أبو الرب، وفي الصباح ارتدوا ملابسهم وخطوا خطواتهم الأخيرة في نفس المنزل الذي خطوا خطواتهم الأولى.

اللحظة الأصعب كانت بالنسبة إليهم، هي الالتفات إلى الخلف لحظة مغادرة المنزل، والنظر إلى أمهاتهم اللواتي كن يقفن لوداعهم. قرروا دون أن يتفقوا أن يواصلوا سيرهم ويخفوا وجوههم حتى لا يلحظن الدموع في أعين أبنائهن.

تعمّد زكارنة أن يترك هاتفه في المنزل وألغى الرقم السري، لتجد عائلته على مذكرة الهاتف وصيتهم باسم "مجموعات الشهيد أحمد عوض"، وأوصوا بأن تُدفن جثامينهم بجانب جثمان الشهيد أحمد، وكان لهم بالفعل ما أوصوا به.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أحمد.. على موعد مع رصاصتين

هكذا أتذكر الأستاذ نزيه

فارسُ المرمى يحرسُ الجنّة!