طحن أهالي قطاع غزة الذين بقوا شمال القطاع أعلاف الحيوانات ليصنعوا منها ما يسدّ جوعهم. نفدت "الأعلاف" مع استمرار الحرب، ولم يبق ما يؤكل. وواصلت "إسرائيل" تجويع 700 ألف فلسطيني في "الشمال" ومنعت إغاثتهم واستهدفت آلاف "الجائعين" الذين يحاولون الحصول على كيس طحين بات سعره يتعدّى ألف دولار. ووصلت المجاعة إلى "مستويات قاتلة" وفق توصيف وزارة الصحة.
طحن أهالي غزة وشمالها الشعير مع الذرة، وأعدّوا أرغفة "خبز" من أعلاف الحيوانات، بعد أن نفدت مخزوناتهم الغذائية مع اشتداد الحصار الإسرائيلي وتعمّق حرب التجويع التي أفضت لارتقاء شهداء
وزارة الصحة في غزة قالت في أحدث معطياتها (6 آذار/ مارس) إنّ طفلًا (15 عامًا) ومسنًا (72 عامًا) استشهدا إثر سوء التغذية والجوع في مناطق شمال قطاه غزة، ما يرفع عدد ضحايا الجوع إلى 20 شهيدًا، بعد أن تعمّقت حرب التجويع شمال غزة، ووصلت مستويات قاتلة للأطفال والحوامل والمرضى المزمنين.
ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة يوم 7 أكتوبر، عمدت "إسرائيل" إلى عقوبات جماعية بحقّ أهالي القطاع، باستخدام سلاح الحصار والتجويع ضدّهم، عبر إغلاق المعابر ومنع دخول الحاجيّات الإنسانيّة. وضيّق الاحتلال الخناق أكثر على مناطق شمال وادي غزة، للضّغط عليهم ودفعهم للنزوح جنوبًا. فكيف حاول أهالي القطاع اجتراح بدائل تعينهم على البقاء على قيد الحياة؟
جوعٌ حتى الموت
تقول الجهات الرسمية في قطاع غزة إنّ مئات الآلاف من سكّان شمال القطاع على بُعد خطوة واحدة من المجاعة، وسط توقعات بارتفاع حالات الوفاة جرّاء نقص الغذاء.
ومع استمرار إغلاق معابر قطاع غزة أمام دخول البضائع والمساعدات الإنسانيّة بالشكل الذي يفي بحاجة القطاع، وعدم وصولها إلى مناطق الشمال. نفّذت دولٌ عمليّات إنزال جوي لمساعدات غذائية، سقط أغلبها في مناطق الجنوب، وبعضها سقط في البحر أو خارج حدود القطاع. وفي الأيام الأخيرة سقطت بعض المساعدات في مناطق الشمال بعد أنّ نفّذ الاحتلال "مجازر الطحين" باستهداف المئات أثناء محاولتهم الحصول على الطحين من شاحنات المساعدات على شارع الرشيد جنوب غرب مدينة غزة.
خبز الذرة مع الشعير
الفلسطينية منال (56 عامًا) من البلدة القديمة في مدينة غزة، تقول إنّ "حرب التجويع" هذه من أصعب ما شهدته في حياتها. خصوصًا أنّ التحدي الأكبر أمامها كان إطعام 12 من أحفادها الصّغار بعد نفاد الطحين والأرز والمعكرونة.
ورغم أنّ العائلة كانت ادّخرت كميّات من الدقيق إلّا أنها نفدت لطول الحرب وعدم إدخال مواد غذائية وسلع تموينية على رأسها الطحين.
تقول منال إنّهم وبعد نفاد الطحين، بدأوا خلط الذرة مع الشعير للحصول على أرغفة خبز لسدّ جوع الأطفال الشديد. وذلك على الرغم من صعوبة عجنهما وخبزهما، بالإضافة لمذاقه ومظهره السيء، وتعفّنه بعد يوم أو يومين. كما أن هذه الأرغفة تسبب المغص والإسهال الشديد.
علف الأرانب
ورغم صعوبة أكل خبز الذرة والشعير، إلّا أن أهالي شمال قطاع غزة اضطروا لاستخدامه إلى أن نفدت الكميّات المتوفرة. فلجأوا بعد ذلك إلى طحن علف الأرانب وعجنه وخبزه، للحصول على أرغفة رمادية اللون.
وتروي الجدّة منال تفاصيل تجربة أكل خبز علف الأرانب التي امتدّت لنحو شهر، بالقول: "لقد اضطررنا لأكله"، و"لم يكن يوجد ما نسُدّ به رمق أطفالنا" مع تواجد الدبابات الإسرائيلية في الحقول المزروعة ببلدات شمال القطاع، ومنع الاحتلال مرور المنتوجات المزروعة في الجنوب، مثل البندورة والخيار.
وتكشف الجدّة منال أن أولادها خاطروا بحياتهم عدة مرات في سبيل الحصول على الطحين، وتروي أنّ ابنها الكبير ذهب إلى دوار النابلسي غرب مدينة غزة يوم المجزرة الرهيبة، لكنّه عاد مثقلًا باستشهاد عدد من أبناء الحي أثناء انتظارهم وصول شاحنات المساعدات. مضيفةً أنّ ابنها نجا بأعجوبة من موت محتّم.
وتساءلت: ماذا نفعل؟ الأطفال جياع، والأسعار خيالية هُنا. كيلو الأرز زاد سعره عن 100 شيقل (27 دولار)، وحليب الأطفال الذي كانت توزّعه أونروا ويباع بـ 9 شواقل أصبح بـ 80 شيقلًا، ووصل سعر كيلوغرام النشا نحو 40 شيقلًا.
الأسعار تضاعفت.. الطحين بألف دولار
أكل المحاصرون العدس لعدّة أشهر حتى اختفى من الأسواق ونفدت كميّاته من البيوت. وتقول منال من مدينة غزة إنّهم يأكلون الخبيزة، فماذا سيأكلون بعد أن ينتهي موسمها؟
غير أنّ المشهد أكثر قساوة في جباليا شماليّ القطاع. يقول الشاب عبد الله صالح إنّهم مع استمرار الحرب في الأشهر الأولى كانوا يصنعون الخبز من القمح رغم ثمنه المرتفع، إذ وصل سعر الكيس إلى 2500 شيقل (694 دولار). وبعد ذلك نفد من الأسواق، فأصبحنا نصنع الخبز من "الشعير" الذي تضاعف سعره ليصل ثمن الرطل إلى 70 شيقلًا (19 دولار). ومع ندرة توفّره في الأسواق أصبحنا نخلطه بالذرة الخاصة بالحيوانات والتبن، ليخرج لنا رغيف غير منتظم الشكل، صعب المضغ، وذا رائحة سيّئة.
وأضاف: حاولنا إضافة مُحسّنات طعام، والنشا والزبدة، إلى خلطة "علف الحيوانات" حتى نحصل رغيف بشكل ورائحة أفضل، لكن الأمر لم يفلح.
وفيما يتعلّق ببقيّة أصناف الطعام، قال عبد الله صالح إنّ الفواكه والخضروات واللحوم الحمراء والبيضاء والمعلبات مقطوعة من الأسواق تمامًا. وقد وصل سعر كيس الدقيق الصغير زنة 25 كيلوغرام إلى 1000 دولار أمريكي، أما العدس فغير متوفّر منذ نحو ثلاثة أشهر. ويشير إلى أنهم حصلوا في آخر مرّة على كيلو من العدس بسعر 100 شيقل. كما أن الأرز الذي كان متوفّرًا بداية الأمر، تضاعف سعر الكيلوغرام منه إلى 100 شيقل، قبل أن يختفي تمامًا من السوق.
أطفال ينامون دون طعام
وتحدّث عن أن بعض العائلات تتناول "الدقة الغزاوية" والزعتر والزيت إن بقي شيء من خزينها، فيما تتناول بعض العائلات نباتات برية كالخبيزة والقريص واللسان والحماصيص، وطبعًا دون خُبز، وبمعدل وجبة واحدة فقط في اليوم، لا تسمن ولا تغني من جوع. ويوضح صالح أن أغلب أفراد عائلته الكبار فقدوا نحو 20 كيلوغرامًا من أوزانهم، أما الأطفال الذين يطلبون الطعام طوال الوقت، فليس بالإمكان توفيره لهم غالبًا، وفي بعض الأحيان يتم "تصبيرهم" بالشاي لبضع ساعات، ثم ندفعهم للنوم مبكرًا، هربًا من طلبهم المتكرر للطعام.
ويشير إلى أنّ بعض العائلات المعروفة تتوجّه إلى مفترق النابلسي ودوار الكويت، بالتزامن مع وصول بعض شاحنات المساعدات وتقوم بسرقتها، فلا يستطيع المواطن البسيط أن يحصّل شيئًا لأطفاله "لقد ذهبت قبل 5 أيام إلى مفترق النابلسي كي أحصل على بعض الدقيق، للأسف رأيت الموت بعيني، حوصرنا هناك من منتصف الليل حتى الصباح اليوم الثاني، ورأينا جثث المعارف والأقارب ونحن نهرب".
عجن البقسماط ببعض الدقيق
وتقول أمل (30 عامًا) من منطقة حي الدرج في مدينة غزة، إنهم لم يحصلوا على أي مساعدات من تلك التي قد تصل الأطراف الجنوبية الغربية للمدينة، لأنه لا يستطيع أي شخص الذهاب إلى هناك إلّا إذا كان "يحمل روحه على كفّه"، فالذهاب إلى هناك كلّف العشرات أرواحهم.
وتشير إلى أنهم اضطروا إلى عجن البقسماط مع قليل الدقيق المتوفّر، للحصول على بضعة أرغفة جيّدة. وفي بعض الأحيان أعادوا تدوير الفستق المغطى بالعجين، بعد تفتيته وعجنه في محاولة للحصول على أرغفة.
الصمود أمام النار والدبابات الإسرائيلية كان أخفّ وطأة من الصمود أمام الجوع كما تقول أمل التي تشير إلى أنّ الأطفال حولها لا يكفّون عن البكاء طلبًا للطعام الذي يصعب توفيره، مع استمرار حرب القتل والتجويع الإسرائيلية بهدف تهجير أهالي القطاع.