كُلَّما أيقظت سهى التلولي طفلها محمد للذهاب إلى المدرسة، يقف الطفل الذي يعاني من نصف إعاقة في البصر، بهيئة هزيلة، وقد ظهر الحزن على ملامحه، فتجتهد والدته، وهي تلبسه قميص المدرسة في تعديل مزاجه. "أين ذهب نشاط محمد وحبه لمدرسته؟" تداعبه الوالدة، فيشير برأسه مجبرًا على مسايرة كلمات والدته التي لن توقف الإساءة التي قد يتعرض إليها اليوم أيضًا من لسان المرشدة النفسية في مدرسته، فيرد: " بدي أروح بسرعة، قبل ما أتأخر ويشوفني المرشد".
"أنت أعمى.. لا تتحرك من هان"
هذه الحالة من الإحباط دخيلة على شخصية الطفل محمد التلولي، وقد بدأت معه تحديدًا منذ بداية العام الدراسي الحالي، كما تقول والدته، مبينة أنه كان خلال الأعوام الدراسية الماضية يتشوق يوميًا لمدرسته، وكانت الأوقات التي يقضيها خلال دوامه الدراسي أفضل لحظات يومه، لكنها الآن تحولت إلى أسوأ مكان قد يذهب إليه.
أطفال يُعانون من إعاقات جزئية يُتعرضون لإهانات من معلمين ومرشدين في مدارس "الأونروا" بغزة
الانقلاب في شخصية الطفل الذي يدرس في الصف الرابع الابتدائي في إحدى مدارس "الأونروا" شمال قطاع غزة، حصل حين اختارت المرشدة النفسية في مدرسته تعطيل اندماجه الطبيعي مع زملائه بحجة معاملته بشكلٍ خاص تفرضه حالته الصحية.
اقرأ/ي أيضًا: عن الحاسة "المنبوذة" في مدارس "الأونروا"
على مقربة من السبورة، يجلس محمد في مقعده الدراسي المشترك مع زميله في مقدمة الصف، هذا المقعد يمكنه من فهم دروسه رغم الصعوبة التي تسببها له إعاقته ولا يمكن حلها، حسبما قالت الوالدة. لكن المرشدة لم يعجبها الأمر، وبدلاً من أن يكون الطفل جالسًا في المقعد المتساوي قيميًا بالنسبة لمحمد مع زملائه، جلبت كرسيًا منفصلاً ووضعته في زاوية منفصلة قريبة من اللوح المدرسي، وأجبرته على الجلوس فيه.
محمد لم يرتح لهذه الخطوة، "وصار يشعر بالحرج والنقص أمام زملائه" وفق قوله، فعاد في اليوم الثاني إلى مكانه الطبيعي، وخلال إحدى الحصص الدراسية دخلت المرشدة إلى الفصل فوجدته قد غادر الكرسي الذي خصصته له، فصرخت فورًا في وجهه: "شو إلي رجعك هان، أنت أعمى لازم تظلك هناك حتى تعوض إلي ما بتشوفه بالسمع".
حين عاد الطفل إلى المنزل، بدا وجهه شاحبًا وعيونه دامعة، كما تقول والدته. لم يُقبل محمد على الطعام كعادته كلما عاد من المدرسة، فرجحت والدته أنه تعارك مع أحد زملائه، توجست ولم تحتمل أكثر فسألته عن سبب حزنه ليروي لها ما حصل معه.
صباح اليوم التالي، واجهت سهى التلولي، المرشدةَ النفسيةَ بما قاله لها طفلها، فردت الأخيرة بالإنكار، " لم أوجه إهانة لمحمد، واختيار جلوسه في كرسي منفصل جاء حرصًا على تحصيله الدراسي". قاطعها محمد قائلاً إنه يشعر أن عيون زملائه كلها موجهة نحوه، وأنه مختلف عنهم".
لم تجد الوالدة نفسها قادرة على تكذيب المرشدة، لكنها طلبت منها أن يبقى محمد في مكانه المشترك مع زملائه، سمحت الأخيرة لمحمد بالعودة إلى مكانه، خلال تواجد والدته، لكنها أعادته فورًا إلى مكانه في اليوم التالي، وكلما بدل محمد مكانه صار يتعرض لذات العبارة المهينة من المرشدة.
تُبين التلولي أن طفلها أُصيب بنفورٍ من المدرسة، أما هي فلم تتمكن من تغيير تعامل المرشدة معه؛ رغم الزيارات المتكررة والشكاوى التي قدّمتها لإدارة المدرسة، كما أنها لا تستطيع اتخاذ إجراء آخر من شأنه أن يصعب الطريق على محمد، فوجدت نفسها مضطرة لإقناعه بتقبل فكرة جلوسه في مكانٍ بعيدٍ عن زملائه، لكنها محاولات بائسة وغير ناجحة ولم تبدل صوته الحزين كلما ذهب إلى المدرسة، كما تقول أمه.
"قدميّ هنا.. يمكن يوصلك الصوت"
"يا ماما والله، أظل في البيت وإنتِ تعلميني أحسن" هكذا ترد الطفلة لانا الحلو من حي الشيخ رضوان في مدينة غزة، على والدتها كلما حان موعد الذهاب إلى المدرسة، فيما تعاود والدتها القلقة على حالة طفلتها التي تعاني من ضعفٍ شديدٍ في السمع، إلحاحها الحنون: " بتلعبي انتي وصديقاتك وتتعلموا مع بعض أحسن يا لانا".
هذا الحوار السريع يدور بشكل شبه يومي بين الوالدة ألاء الحلو وطفلتها لانا التي تدرس في الصف الرابع الابتدائي، وقد نجت من مرضٍ أصابها بعد الولادة بأذن معدومة وأخرى تعمل بنصف قدرة.
إدارة مدرسة تابعة لـ"الأونروا" تُبرر إهانات لفظية وجهتها معلمة لديها لطالبة تُعاني إعاقة جزئية في السمع
تستعين لانا بالسماعة الإلكترونية الطبية في التغلب قليلاً على مشكلتها في السمع، لكنها وخلال العجلة تنسى أن تأخذ سماعتها معها. وما إن ترى المرشدة النفسية في مدرستها الطفلة دون سماعة، حتى تنهال عليها بعبارات مؤذية أمام زملائها: " تعالي يا طرشة قدامي هنا.. على الله تسمعي" وتجبرها على الجلوس بالقرب من السبورة. تقول والدتها آلاء: "كل يومين، بلاقي لانا مروحة وعيونها بتدمع، هي تستطيع تمضية يومها بدون سماعة، لكن من يفهم المرشدة ذلك".
اقرأ/ي أيضًا: مقاصف مدرسية بغزة.. شهادات على أغذية فاسدة وتقصير رسمي
توجهت الوالدة أكثر من مرة إلى المدرسة واشتكت المعلمة للإدارة، لكنهم يواجهونها في كل مرة بتحميل الطفلة اللوم، ولأن لانا تعاني من ضعف في السمع ردوا عليها في أحد المرات: " إن لانا تتخيل أنها تسمع هذه العبارات".
تُضيف آلاء، "الجريمة الحقيقية بحق هؤلاء الأطفال، أنهم حولوا المكان الذي كان من المفترض أن يعلمهم كل القيم الجميلة، إلى مكانٍ منبوذٍ بالنسبة للأطفال، طفلتي صارت تكره أن أذكر اسم المدرسة أمامها، بعدما كانت ككل الأطفال متلهفة للمدرسة".
"إياكِ تقربي على بنتي يا طرشة"
التعنيف نفسه تتعرض له الطفلة منى عوف التي تعاني من ضعف في السمع، لكن من منظور آخر. منى، طالبةٌ في الصف السادس في إحدى مدارس الأونروا شمال القطاع، تدرس في صفٍ تُشاركها فيه ابنة المرشدة النفسية في المدرسة.
تروي نداء عوف، والدة منى أن مشادة كلامية وقعت بين ابنتها وابنة المرشدة، فتوجهت الطفلة إلى والدتها المعلمة فورًا، وما أن عملت الأخيرة حتى ذهبت مسرعة تبحث عن منى، ولما وجدتها بين زميلاتها صرخت "إياكِ يا طرشة تقربي على بنتي.. وحدة ساقطة صحيح".
تقول عوف: "لما عادت منى إلى البيت كانت مصدومة تمامًا. في اليوم التالي ذهبت لمقابلة المرشدة التي صدتني قائلة: بنتك بتظلها تشوش على بنتي خلال الحصص، فهميها تبعد عنها إذا ممكن". تُضيف، "أنا تفاجأت، كيف لمثل هذه المعلمة أن تكون أمينة على أطفال الناس، تستغل ضعف بنتي وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها، لتكيل إليها الكذب والاتهامات".
تكررت هذه الإهانات لاحقًا، فقررت نداء عوف نقل طفلتها من الصف الذي تدرس فيه ابنة المرشدة، لكن هذه الأحداث - كما تقول نداء - انعكست سلبًا على طفلتها التي صارت تتغيب كثيرًا عن المدرسة. تقول منى: "حتى الآن أنا لست سعيدة في الصف الجديد، فصديقاتي جميعهن موجودات في الصف القديم الذي غادرته غصبًا عني".
نقلنا هذه الشكاوى إلى المتحدث باسم وكالة الغوث عدنان أبو حسنة، فأجاب مستنكرًا التعامل المسيء مع الأطفال من ذوي الإعاقة، وقال: "هذه الأفعال مرفضة تمامًا في الأونروا، ولا يجب أن يغفلها أهالي الأطفال"، لكنه أضاف أن "طبيعة العمل في الأونروا معقدة، ولا يجوز لأي طرف التدخل في اختصاصات غيره، وأن هذا الأمر ليس من اختصاصه".
وكالة "الأونروا" لا تتعاون مع الشكاوى الموجهة لها حول تعنيف لفظي يتورط فيه معلمون لديها لطلاب من ذوي الإعاقة
وأضاف، " بغض النظر عن أن أساسيات العمل في الأونروا تفرض على موظفيها التعامل الإنساني بالدرجة الأولى، إلا أن الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة هو من أهم الملفات لدى إدارة التعليم في الأونروا" كما قال.
لم يجب أبو حسنة عن سؤالنا إن كانت هناك لجنة رقابية تتابع سلوك المُعلّمين مع الأطفال الإعاقة، واكتفى بالقول أبو حسنة إنه "يجب على الأهالي التوجه إلى مبنى الإدارة وتقديم شكاويهم الكاملة بخصوص ما تعرض له أطفالهم".
لكن تنفيذ ما يقوله أبو حسنة، ليس بالأمر السهل، فقبل ما يزيد عن 20 يومًا من إعداد هذا التقرير كان الترا فلسطين قد حمل شهادات أهالي الأطفال الثلاثة، وحاول الوصول إلى إدارة التعليم في "الأونروا"، فوجدنا أنها تفرض شروطًا معقدة للوصول إليها عبر طرق مختلفة، كما أن محاولاتنا قوبلت بالتهميش والمماطلة، وهو ذات الرد الذي تعرض له أهالي الأطفال حين حاولوا الوصول إلى المبنى الرئيسي، كما تقول والدة منى عوف.
وتنص المادة العاشرة من الفصل الثاني في القانون الفلسطيني رقم 4 لسنة 1999 بشأن "المُعوقين"، على "ضمان حق المعوقين في الحصول على فرص متكافئة للالتحاق بالمرافق التربوية والتعليمية وفي الجامعات ضمن إطار المناهج المعمول بها في هذه المرافق".
اقرأ/ي أيضًا:
في مؤسسات غزة.. ذوات الإعاقة للاستغلال فقط