شتاء آخر، يمر على فلسطين في السنوات الأخيرة حاملاً معه ارتفاعًا في درجات الحرارة، وسوء توزيع للأمطار من حيث الزمن على امتداد الفصل كله، وكذلك انحباسًا في الثلوج، فيما بدأت علامات فصل الصيف تظهر باكرًا، منذ شهر آذار/مارس، وتتكرر على نحو أشد في شهر نيسان/إبريل، متجاوزة اعتدال فصل الربيع. فهل يُمكن الحديث عن تغيّرات مناخية حقيقية في فلسطين؟ وما هي تداعيات ذلك إن كان حقيقيًا؟ الترا فلسطين يطرح تساؤلات في هذا السياق على مختصين.
يبيّن داود طروة، عضو كرسي "اليونسكو" لعلوم الفضاء والفلك، أن التغيرات المناخية هي جزء من دورات طبيعية تمر بها الكرة الأرضية، وما يحدث حاليًا لدرجات الحرارة من ارتفاع أو انخفاض فوق العادي، كان قد حدث في الماضي قبل الثورة الصناعية.
فلسطين حاليًا في نهاية دورة الاحترار، وستدخل قريبًا في دورة التبريد، فالتغيرات المناخية جزء من دورات طبيعية تمر بها الأرض
وبالعودة لأرشيف المناخ الفلسطيني منذ عام 1850، يتبين أن معدلات هطول الأمطار هي نفسها تقريبًا، فهي تزداد في سنوات وتقل في أخرى. ووفق طروة، فإنه يمكن اعتبار فلسطين حاليًا في نهاية دورة الاحترار، وستدخل قريبًا في دورة التبريد التي ستبلغ ذروتها في ثلاثينيات القرن الحالي.
اقرأ/ي أيضًا: كنز مدفون في إحدى دفيئات وزارة الزراعة بغزة
ويوضح طروة، أن التغيرات لا تقتصر على درجات الحرارة فقط - لارتباطها بالتغيرات التي تحدث في باطن وسطح الشمس - تبعًا لطبيعة الدورات المناخية، بل يمتد تأثيرها إلى قطبي الأرض، وبالتالي طول الفصول وقصرها، ولكن ليس بدرجة كبيرة.
ووفقًا لطروة فإن التغيرات التي تتبع دورات الكرة الأرضية؛ ستكون خلال السنوات المقبلة على شكل ما يسمي "فوضى مناخية عارمة"، وتتمثل في زيادة "الطقس المتطرف"، مؤكدًا أن درجات الحرارة ستزداد في دول وتنخفض في أخرى بشكل غير معتاد، وستضرب موجات حر قياسية مناطق لم تعتد عليها، وموجات من البرد الشديد ستضرب مناطق أخرى.
وأضاف، "في فلسطين سترتفع درجات الحرارة عن معدلاتها مع بقاء كميات الأمطار قريبة من معدلاتها، ووجود فرص هطول الثلوج في مواسمها"، لكنه توقع أن يعود الطقس إلى البرودة الشديدة، وتزداد فرص تساقط الثلوج بشكل أكبر، خلال عشرينيات القرن الحالي.
وإلى حين عودة المناخ لطبيعته، أي آثار يُمكن أن يتركها تغيّره على الفلسطينيين، واقتصادهم، وحياتهم اليومية؟
يؤكد أخصائي علوم البيئة أحمد صافي، أن تداعيات التغيرات المناخية كُشفت حديثًا، وأصبحت قضية تحث على التغيرات السلوكية حول العالم، مبينًا أن حدوث تغير مناخي خلال 200 عام غير طبيعي. وأضاف، "قبل بدء الثورة الصناعية ارتفعت درجة حرارة الأرض درجة مئوية واحدة، علمًا أن الفرق بين المناخ الحالي ومناخ العصر الجليدي هو خمس درجات مئوية".
وبرأي صافي، فإن فلسطين تحتاج لبدء نقاشات جادة على المستويات السياسية والعلمية والتقنية والمجتمعية، من أجل تبني سياسة عامة لمحاولة دراسة آثار التغيرات المناخية وآليات التكيف معها، منوها إلى أن قطاع غزة خاصة يعاني من تضاعف مشكلة الجفاف، إذ أن97% من الآبار أصبحت غير صالحة للشرب.
الجفاف أحد مظاهر التغيرات المناخية في فلسطين، في قطاع غزة مثلاً أصبحت 97% من الآبار غير صالحة للشرب
وقبل أربع سنوات؛ أفاد مقال مُترجم عن مجلة "science" العلمية، أن علماء يدرسون إمكانية أن يكون للتغيرات المناخية تأثيرها على المشاحنات الشخصية، والانهيارات الاجتماعية، بل الحرب الأهلية أيضًا. يبني الباحثون فرضيتهم هذه على بيانات مستقاة من 60 دراسة حول العدوان البشري والتغيرات البيئية التي امتدت لتشمل ست قارات لأكثر من 1200 سنة.
اقرأ/ي أيضًا: كيف اجتمعت إسرائيل ومصر ضد بطيخ جنين؟
ووفق المقال، فقد وجد الباحثون بأن الانحراف المعياري يزيد بمُعدّل درجة واحدة كلما ارتفعت درجة الحرارة لأحد الأشهر بمقدار أعلى من المعتاد بحوالي 3 درجة سيليزية. يتحدث الباحثون أيضًا عن تأثيرات للجفاف والفيضانات، لكنها تقل عن تأثيرات درجات الحرارة.
وإن كانت الآثار على السلوكيات العامة لا تزال قيد الدراسة، وتشهد تطورًا مع تواصل إنتاج الأبحاث والدراسات، فإن آثارها على الصحة الجسدية للإنسان أمر لا شك فيه. يبين محمد عبد المنعم، أخصائي الأمراض الصدرية في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، أن الأمراض الناتجة عن تغيّرات المناخ تتركز في الجهاز التنفسي، مثل التهابات الرئتين، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والشعب الهوائية، والجيوب الأنفية.
ويؤكد عبد المنعم أن التغير المناخي يؤدي إلى تغير في التنظيم الحراري لجسم الإنسان، ينتج عنه تغيرات فسيولوجية تضعف مناعته. يقول: "يبدأ الفايروس بالهجوم على الجسم متغلبًا عليه بسبب ضعف مضاداته الدفاعية، فتبدأ المعاناة على شكل انفلونزا، وإن لم تعالج بشكل صحيح؛ تتحول إلى التهابات حادة في الرئتين قد تؤدي لوفاة المريض نتيجة تأخر التشخيص والعلاج".
التغير المناخي يؤدي إلى تغير في التنظيم الحراري لجسم الإنسان، ينتج عنه تغيرات فسيولوجية تضعف مناعته وقد تنتهي بالوفاة
ويُسبب التغير المناخي أيضًا الربو الشعبي المزمن؛ لأنه يزيد تهيج الشعب الهوائية، ويسبب أيضًا ضيق التنفس والسعال الشديد والتعب العام. يبيّن عبد المنعم أن بعض الأمراض - تحديدًا المزمنة - تتأثر بالعوامل المناخية مثل الرطوبة، والحر، والبرد، ومنها حساسية الصدر، والسدة الرئوية، والألياف الرئوية، والتليف الكيسي.
اقرأ/ي أيضًا: الفييجوا في غزة.. العين على الاكتفاء ثم التصدير
وتمتد آثار التغيّرات المناخية لتشمل الاقتصاد أيضًا، من خلال ضرب الزراعة. يؤكد نزار الوحيدي، مدير الإرشاد والتنمية بوزارة الزراعة في غزة، أن الارتفاع الشديد في درجات الحرارة يؤثر على نمو النبات، فالثمار تفقد صلاحيتها للتصدير نتيجة صغر حجمها أو نموها بأحجام كبيرة لدرجة اعتبارها مشوهة.
ويشير إلى أن المحاصيل الشتوية تحتاج إلى جو بارد، وفي الصيف إلى كثير من مياه الري، فبعض النباتات لا تحتمل الزيادة في ملوحة التربة، وأخرى تتعرض للدمار نتيجة قصر وقت هطول الأمطار.
ويرى الوحيدي، أن ارتفاع درجات الحرارة في كانون الأول/يناير الماضي فوق معدلاتها بحوالي 7 درجات مئوية؛ سيؤثر سلبًا على كثير من المحاصيل، إن لم تتوفر احتياجاتها الملائمة من ساعات البرودة، خاصة العنب والتين والتفاح والإجاص واللوزيات، لذلك قد يُفاجأ المزارعون بمشاكل في لون الثمار، وحجمها، أو في مواعيد الإزهار والنضج، مما ينعكس سلبًا على كميات الإنتاج.
وكانت السلطة الفلسطينية انضمت إلى اتفاقية تغيّر المناخ في شهر كانون الأول/ديسمبر لعام 2015، وهو اتفاق يؤكد على هدف احتواء ارتفاع متوسط حرارة الأرض وإبقائه دون درجتين، والسعي لجعل هذا الارتفاع بمستوى 1.5 درجة.
اقرأ/ي أيضًا: