24-أبريل-2018

أطفال يلعبون باركور في مخيم العودة بمدينة رفح - تصوير: أشرف عمره (Getty)

لسنوات طويلة، ظلَّت فكرة الاقتراب من الحدود الشرقية لقطاع غزة الممتدة على نحو 40 كيلومترًا، ضربًا من الجنون؛ وشبهة أمنية لا تُحمد عقباها، فهذا الشريط الضيق بعرض 700 متر؛ كان حتى أواخر آذار/مارس الماضي حكرًا على ثلاث فئات من البشر فقط.

ففي تلك المنطقة التي تعج بآلاف الدونمات الزراعية المزروعة بالقمح وبعض أنواع الخضروات الموسمية، لم يكن يُسمح لأحد بالتجول حتى قبل نهاية آذار/مارس الماضي، سوى مزارعين قلائل بوجوهٍ معروفة جيدًا، أو عناصر المقاومة المسلحة، أو جنود جيش الاحتلال المتمركزين على الطرف الآخر من السياج الحدودي المنتصب لثلاثة أمتار.

حتى أواخر آذار/مارس الماضي، كان الاقتراب من السياج الفاصل حكرًا على عناصر المقاومة المسلحين، ومزارعين قلائل، وجنود الاحتلال

تلك المناطق الحدودية لا يُرى منها سوى مصابيح المركبات الإسرائيلية العسكرية والمدنية المارّة على بعد كيلومترين تقريبًا من السياج، يروي سكانها ما يسمعونه مع حلول ساعات الليل من إطلاق نار على أي جسم متحرك قد يُرصد في الجوار، أو على الأقل تعرض أحدهم للتوقيف من عناصر المقاومة بتهمة الاشتباه بالتواجد هناك.

اقرأ/ي أيضًا: ليالي الساهرين على "عتبة البلاد".. صور وفيديو

لكن مسيرات العودة التي انطلقت آخر الشهر الماضي، ومن المقرر أن تستمر حتى منتصف أيار/مايو، خلقت واقعًا جديدًا تمثل بكسر حاجز الخوف لآلاف المحاصرين الذين ضاقت بهم مساحة القطاع الصغيرة، وشبه انعدام فرص السفر إلى الخارج، عدا عن التعطش لغريزة اكتشاف الجديد عبر الوصول إلى تلك المناطق، لتتحول إلى أشبه بنزهة أسبوعية.

يقول مهتمون بالقطاع السياحي، إن زائري الحدود الشرقية التي يُعتقد أن عشرات الأنفاق تزحف أسفلها، ستسرق رواد البحر الملوث بمياه المجاري، وبالتالي قضاء أوقات من المغامرة الخطرة في المتنزه الجديد.

فالزائر لساحة "ملكة"، إحدى خمس مخيمات أخرى خصصها المنظمون للمسير الأسبوعي، يمكنه تسجيل مشاهد لا يمكن أن تكون سابقًا هنا؛ حيث مئات الباعة المتجولين، وفرق الكشافة، وقارعي الطبول، ومُطلقي الطائرات الورقية، ودرّاجين، ومعارض تراثية، وطهاة المأكولات الشعبية، وحتى لاعبي كرة الطائرة.

في مخيمات العودة ستشاهد من يلعبون كرة الطائرة، وفرق كشافة، وباعة متجولين، ودراجين، ومعارض تراثية

أسفل شجيرات زيتون زرعت حديثًا على بعد نصف ميل فقط من السياج، فضّلت لٌبنى أبو جزر (52 عامًا) وبناتها الأربعة تناول وجبة الغداء (دجاج مقلي على الطريقة التايلندية)، معتقدات أنهن لن يجدْن مكانًا أفضل من هذا الموقع القريب من قرية "المُحرّقة" المهجرة، التي ينتمي إليها جدّهن.

اقرأ/ي أيضًا: مُسنون على الحدود.. دليل الثائرين لطريق العودة

تتقاطع أعمدة الدخان الأسود الكثيف بفعل الإطارات المشتعلة؛ مع مثيلتها البيضاء المنبعثة من قنابل الغاز والأعيرة النارية التي قد تخطئ وتصيب، إلا أن ذلك لم يُشكل عنصر طرد لتلك العائلة النسائية. "لا شيء يدعوك للخوف طالما أن أجدادك يملكون دونمات هنا". تُشير نُهى إلى ناحية الحقول الخضراء ما وراء السياج.

وكان منظمو المسير أعلنوا قبل انطلاق الأسبوع الرابع عن تقديم الخيام مسافة 50 مترًا باتجاه الحدود، إلا أن نحو ثمانيةٍ من تلك الخيام العائلية تقدمت 300 مترٍ لتعلن كسر حاجز الرهبة، وتؤكد على حقها في العودة.

تقول نور (17 عامًا) التي تتحضر لاختبارات الثانوية العامة الشهر المقبل، إنه يتوجب نقل خيام العودة إلى مسافة صفر الجمعة المقبلة. وأضافت، "لم الخوف طالما أن هذه البلاد أقيمت على تهجيرنا؟ يعتقدون أن الصغار سينسون، لكن لن ننسى".

المزارع رأفت جندية (42 عامًا) يعتبر نفسه "الخاسر الوحيد" من هذه الجموع الأسبوعية. فالزحف للأمام تارةً والهروب للخلف تارةً يعني أن أشتال الباميا والقمح والباذنجان الممتدة على 25 دونمًا ستتحول إلى أشلاء بفعل مئات الأقدام التي تدوس أراضيه.

ويعتقد رأفت أن حقله شبه المُهشّم الممتد لـ 35 دونمًا أخرى وراء الحدود، تحوّل إلى "ملهىً نهاري ومطعم في الهواء الطلق".

يقول رأفت: "لا يمكنني منع المئات من دهس السنابل والشتلات، فطالما أن مجيئهم هنا قد يُنفّس بعض الاحتقان والغضب لديهم من طول سنوات الحصار والجمود السياسي؛ فأهلاً بهم". ويضيف: "لن تجد أحدًا يتجول هنا نهارًا أو ليلاً خلال شهرٍ مضى، أما الآن فوجبات الغداء والمثلجات والمكسرات والمشروبات أصبحت رفيقة المتنزهين هنا، فلا صور الشهداء ولا الإصابات الحرجة على شاشات التلفزيون تمنع الناس من المشاركة. الناس بطّلت تخاف".

صور الشهداء والإصابات الحرجة على شاشات التلفاز لا تمنع الناس من المشاركة في مسيرات العودة، "الناس بطّلت تخاف" يقول أحدهم

لكن تلك "النزهة" التي لوحظ فيها جرأة الفتيات اللائي كُنّ يحتجبن عن المشاركة في هذه التظاهرات سابقًا، لا يُعرف ما سيكون شكلها وإن كانت ستطول إلى ما بعد ذكرى النكبة الشهر المقبل.

اقرأ/ي أيضًا: جريحات في مسيرات العودة.. "لنكون أول العابرين"

وعلى مقربة من المتظاهرين الغاضبين، كانت شيرين نصر الله (31 عامًا) ترتكز على إطار سيارة قديم تحاول نقله للشبان، تقول: "يحاول أصدقائي منعي من التقدم، لكنني لا أخشى الإصابة ولا فرق بيني وبين الشبان بضرورة المشاركة".

وتضيف نصر الله، "رغم أن الذكور يُسيطرون في مجتمعنا، إلا أنهم أصبحوا يتقبلون مشاركتنا ولو جزئيًا". إلا أن أصدقاءها كانوا يراقبونها كل فترة لإقناعها بضرورة التراجع.

نظريًا؛ يؤمن محللون أن المجتمع المختنق بكثرة الأزمات، لن يتأثر بأي دعوات قد تدعو لإيقاف ذلك المسير، في ظل أنباء ترددت مؤخرًا عن عروض "مغرية" من دولٍ عربية مقابل وقف مسيرة العودة.

المحلل السياسي هاني حبيب يقول إن المسير الأسبوعي ولّد ديناميّات للاستمرار حتى ما بعد الخامس عشر من أيار/مايو، باعتبارها شكل من أشكال المواجهة المشروعة.

المجتمع الغزي المختنق بكثرة الأزمات، لن يتأثر بأي دعوات قد تدعو لإيقاف مسيرة العودة

"المسيرات تضمنت أمواجًا جديدة من الإبداعات الشبابية، وهي تمثل وقودًا يوميًا لابتكار أساليب جذابة تندرج ضمن المقاومة السلمية وإيصال الصورة السلمية لمطالب أولئك المتظاهرين". يقول حبيب لـ الترا فلسطين.

ويبدو أن المشاركة في هذه التظاهرات لاقت إعجاب حتى الأطفال، فهم محظوظون أنها توافق عطلتهم المدرسية. بسمة أبو حشيش (9 أعوام) كانت من أولئك الأطفال، وقد أتت برفقة إخوتها لتناول المثلجات على شارع "جَكَرْ" الذي شقّته المقاومة بُعيد انتهاء حرب صيف 2014 على بعد 300 متر من السياج الفاصل، مستوحيًا وصفه المحليّ من "مناكفة الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر نفسه ضمن هدنة ما بعد الحرب".

"لا شيء مخيف هنا، فقد أحضرنا مياهًا معدنية لغسل عيوننا إذا هاجمونا بقنابل الغاز. على الأقل سيروي لنا أبي قصصًا عما كان يفعله عندما كان في عمرنا، وما كان يصيده جدي في بحر يافا". تقول بسمة شقيقة 6 أخوة آخرين.

ويبدو أن هذا الشكل الجديد من النجاح الفلسطيني الشعبي دفع الكاتب الإسرائيلي بن درور يميني للكتابة في صحيفة "يديعوت أحرونوت": "ربحنا المعركة وخسرنا الحرب"، ويقصد خسارة حرب الإعلام والرأي العام الدولي.

وأشار يميني إلى تراجع سياسة كيانه وخسارته أمام الفلسطينيين في مواجهة المسيرة، وأن هذه الخسارة قد تتكرر في حال استمرار مسيرة العودة وبقاء النظرة القاصرة القائمة على القتل كأسلوبٍ للمواجهة.


اقرأ/ي أيضًا:

مسيرات العودة: مشاهد لا تُنسى.. صور وفيديو

فيديو | ساقي الثوار..

فيديو | "طفل البصل".. أيقونة أخرى لمسيرات العودة