20-ديسمبر-2022
شيرين أبو عاقلة

هذا المقال هو النسخة المكتوبة لمرافعة ألقيتها، بعد التعديل لضوابط الإلقاء الشفاهي، يوم 15 ديسمبر 2022 في المسابقة الدولية للمرافعات حول حقوق الإنسان بموريتانيا في نسختها التاسعة، حول قضية اغتيال شهيدة الحقيقة شيرين أبو عاقلة وضد استمرار إفلات الكيان الصهيوني من العقاب.

في أرض فلسطين زهرة هي عيْن للحقيقة ماثلة

في القلب مقاوِمة وفي البطاقة مكتوب مُراسلة

كلّما أجرم المحتلّ وجدها صوْبه للصورة ناقلة

سلاحه قتل وسلاحها مصدح كل يوم بينهما مقابلة

أنهكته بصوت ملائكي تنقل الأحداث المتداولة

أمعن المحتّل في جرمه حتى ظنّ دولته غير زائلة

فقرّر أن يقتل الزهرة ليُضيف شهيدة للقافلة

لقد اغتالوها.. لقد اغتالوا شيرين أبو عاقلة

إن بعض القهر يدفع المحامي ليحاول شعرًا.. وإن بعض الضّيم يجعل المحامي بركانًا حِممه مرافعة.

في فجر يوم 11 ماي 2022، حاول جيش الاحتلال الإسرائيلي اقتحام مخيّم جنين، أحد عناوين مظلمة القرن، وكذا أحد عناوين المقاومة. رنّ الهاتف، حملت الشهيدة سترتها الصحفية ومصدحها، وتوجهت لميدان المواجهة كما اعتادت منذ سنين أن تنقل الصورة وتكشف الحقيقة. الحقيقة التي تزعج المحتلّ لأنها تعرّيه وتفضح جرائمه للعالم. الحقيقة التي طالما سعى لإخفائها وإخراسها. الحقيقة التي قرّر المحتلّ القاتل أن يغتال أحد رموزها في أرض فلسطين. أن يغتال صحفية مجتهدة مؤمنة برسالة الصحافة، أن يغتال شيرين أبو عاقلة.

انطلقت رصاصة من سلاح قناص واستقرّت في أعلى عنق شيرين، ولا غرو أنه قتل متعمّد: إصابة في مقتل في الجزء الفاصل بين السترة الواقية والخوذة الصحفية، ومن مسافة قريبة لا تزيد عن 180 مترًا. ثم استمرت قوات الاحتلال بإطلاق النار باتجاه كل من كان يحاول إنجادها ومنعت وصول سيارات الإسعاف. ومع معاينة 4 رصاصات في الشجرة المحاذية للشهيدة لحظة اغتيالها، فالثابت إذًا أن إطلاق النار كان مركزًا لهدف دقيق: هو اغتيال، هي جريمة دولة.

القاتل معلوم والضحية معلومة: القاتل هو قناص لا نعلم اسمه ولكن نعلم جرمه، من جيش دون شرف يحتلّ أرضًا منذ ما يزيد عن 70 عامًا وشرّد شعبًا أبيُا قاوم ولا يزال يقاوم، والضحية مراسلة صحفية، يعلم قاتلها من هي ويعلم أكثر أثر صوتها وصورتها في كشف الحقيقة

القاتل معلوم والضحية معلومة: القاتل هو قناص لا نعلم اسمه ولكن نعلم جرمه، من جيش دون شرف يحتلّ أرضًا منذ ما يزيد عن 70 عامًا وشرّد شعبًا أبيُا قاوم ولا يزال يقاوم، والضحية مراسلة صحفية، يعلم قاتلها من هي ويعلم أكثر أثر صوتها وصورتها في كشف الحقيقة. اغتيال شيرين هو محاولة اغتيال للحقيقة، ولكن أنّ للمجرم أن يحجب الشمس؟

سيداتي وسادتي الكرام

اغتيال شيرين هو جريمة جديدة ومكتملة الأركان تُضاف لقائمة الجرائم الإسرائيلية وبالخصوص منها الجرائم الممنهجة لاستهداف الصحفيين. اغتال الاحتلال نحو 60 صحفيًا فلسطينيًا منذ عام 2000. وهو يستهدف الصحفيين بالاغتيالات والاعتقالات والتهديدات والترهيب وكل أشكال الانتهاكات سعيًا لاستهداف الحقيقة، وقد كانت شيرين نبراسًا لحقيقة موضوعية وكاملة وغير متجزئة تعكس الصورة وتنقل الحدث حتى أصبحت هي الحدث.

شيرين ليس مجرّد صحفية هي ذاكرة جيل وجزء ثابت من مشهد تمثلنا منذ صغرنا لفلسطين، مدينون لها أنها كانت عيننا على أرضنا المحتلة .. قاومت من أجل قضيتنا وسلاحها المصدح وصوتها. نستذكر جيّدا تغطيتها لأحداث حي الشيخ الجراح وما كانت تواجهه من جنود الاحتلال من مضايقات مع زملائها من الصحفيين المرابطين وقد كانوا يفضحون وقتها للعالم معنى أن يكون الاحتلال غاصبا للأرض فعلًا ميدانيًا لا قولًا مجردًا، معنى أن يفتك المحتل الدار من أهلها ليعطيها لغرباء.

ترتبط حرية الصحافة وحماية الصحفيين جوهريًا بحرية الرأي والتعبير والتي تشمل، بحسب المادة 19 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، "التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود". وبالتالي إن استهداف الصحفيين ليس استهدفًا فقط لحرية الصحافة بل أيضًا لحرية التعبير، فليست الاعتداءات ضد الصحفيين إلا تقييد مباشر لحق الفرد في تلقّي المعلومة ومعرفة الحقيقة. والحق في معرفة الحقيقة هو حق مستقلّ قائم الذات في مواجهة حملات التزييف والتحريف من دولة الاحتلال.

شيرين ليس مجرّد صحفية هي ذاكرة جيل وجزء ثابت من مشهد تمثلنا منذ صغرنا لفلسطين، مدينون لها أنها كانت عيننا على أرضنا المحتلة .. قاومت من أجل قضيتنا وسلاحها المصدح وصوتها

لقد أمعن الاحتلال الإسرائيلي باغتيال شيرين أبو عاقلة في جرائمه ضاربًا عرض الحائط القوانين والمواثيق الدولية وفي مقدمتها تلك التي تحمي الصحفيين:

- تنصّ المادة 79 من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف 1949 لحماية المدنيين بالنزاعات العسكرية أن الصحفيين المدنيين الذين يؤدون مهماتهم في مناطق النزاعات المسلحة يجب احترامهم ومعاملتهم كمدنيين، وحمايتهم من كل شكل من أشكال الهجوم المتعمد.

- أكدت المادة 34 من الفصل 10 من دراسة للجنة الدولية للصليب الأحمر عن القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني أنه "يجب احترام وحماية الصحفيين المدنيين العاملين في مهام مهنية بمناطق نزاع مسلح ما داموا لا يقومون بجهود مباشرة في الأعمال العدائية".

- أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها عدد 68/163 في 18 ديسمبر 2013 ضرورة توفير الحماية للصحفيين لتحقيق سلامتهم.

- بل سبق وأدان قرار مجلس الأمن عدد 1738 سنة 2006 الهجمات المتعمدة ضد الصحفيين وموظفي وسائل الإعلام والأفراد المرتبطين بهم أثناء النزاعات المسلحة. ويقدم الأمين العام للأمم المتحدة تقريرًا سنويًا إلى الجمعية العامة بشأن تنفيذ هذا القرار .

تلغرام الترا فلسطين

تثبت مسؤولية دولة الاحتلال عن اغتيال شيرين، بالخصوص، بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية سنة 1949 التي تنص على أن الطرف المتحارب هو طرف مسؤول عن جميع الأعمال التي يرتكبها أشخاص ينتمون إلى قواته المسلحة. كما تنص المادة 91 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على أن طرف النزاع الذي ينتهك أحكام الاتفاقيات هو مسؤول عن كافة الأعمال التي يقترفها الأشخاص الذين يشكلون جزءا من قواته المسلحة. كما لا يحق للقاتل أن يتحلل من المسؤولية الجزائية الدولية بحجة تنفيذ الأوامر إذ تؤكد مبادئ القانون الدولي أن المسؤولية الجنائية تثبت في مواجهة الفرد ولا يمكنه التذرع بتلقي أوامر عليا لتبرير القتل بالخصوص.

أعضاء اللجنة الموقرة

هذه الصكوك المذكورة هي بعض من صكوك ليست، في الأصل، إلا نصوص إحالة لقتلة شيرين على القضاء الدولي، ونحن بالخصوص أمام جريمة حرب. إذ تعدّ الجرائم الموجهة ضد الصحفيين جرائم حرب لأنها تستهدف المدنيين ويخضع مرتكبيها لولاية المحكمة الجنائية الدولية المؤسسة بناءً على اتفاقية روما. ففيما يتعلق بالمراسلين الحربيين، أو عموما الصحفيين العاملين في مناطق النزاع أو الأراضي المحتلة، التي تطبق فيها قواعد القانون الدولي الإنساني، فإن استهدافهم بالقتل أو الاعتداء العمدي عليهم جسديًا يعد جريمة حرب طبقًا للمادة 8 من ميثاق المحكمة.

لا يحق للقاتل أن يتحلل من المسؤولية الجزائية الدولية بحجة تنفيذ الأوامر إذ تؤكد مبادئ القانون الدولي أن المسؤولية الجنائية تثبت في مواجهة الفرد ولا يمكنه التذرع بتلقي أوامر عليا لتبرير القتل بالخصوص

رغم عدم انضمام إسرائيل إلى المحكمة الجنائية، فإن قبول عضوية فلسطين في الأول من أفريل 2015 يجعل لها ولاية جنائية على الأراضي الفلسطينية، وهو ما أكدته المحكمة في 5 فبراير 2021 بخصوص تمتعها بصلاحيات تجيز لها النظر في جرائم الحرب بالأراضي المحتلة. ولذلك إن المحكمة الجنائية، الآن في قضية شيرين، أمام اختبار إحقاق العدل بدل الظلم، إعلاء الحق بدل الباطل.

تتوفّر الحماية القانونية للصحفيين في الأحد الأدنى عبر عدد من الصكوك الدولية كنت قد أشرت لأهمها، وربما من الحريّ تعزيزها عبر إبرام معاهدة دولية خاصة بحماية الصحفيين في النزاعات المسلحة. ولكن، في الواقع، لسنا بحاجة لمزيد من التشريعات بقدر الحاجة لتطبيق القانون لإنصاف الضحية وضمان عدم تكرار الانتهاكات وذلك أمام معضلة الإفلات من العقاب، وهذا مربط الفرس.

إن حقيقة إفلات الاحتلال الإسرئيلي من العقاب هي التي قتلت شيرين. بعد نحو 4 أشهر على الاغتيال، لم تخجل النيابة العسكرية في دولة الاحتلال بإعلان أنها تجد أي مخالفة تستدعي فتح تحقيق جنائي مؤكدة عدم التحقيق  مع الجندي الذي يُحتمل أنه أطلق النار على شيرين وقتلها. هي حالة من الإمعان من التنصّل من المسؤولية وعدم الخشية من أي تبعات قانونية.

إن الإفلات الدائم من المساءلة هو الذي جعل هذا الاحتلال يواصل جرائمه دون خشية من حساب أو عقاب. تؤكد الحقيقة الجنائية أن عدم معاقبة المجرم ما بما يؤدي لعدم الزجر والردع سيجعله يواصل إجرامه، فما بالك إن كان من يمارس الانتهاكات والجرائم دولة؟ لقد أثبتت حقيقة عدم معاقبة الكيان الصهيوني منذ نشأته أنه اتخذ من ارتكاب الانتهاكات وخرق القوانين والاتفاقيات الدولية منهجًا وسياسة.

سيداتي وسادتي الكرام

لا أوجه الاتهام فقط إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي. من هذا المنبر، إنني أوجّه الاتهام أيضًا لما يسّمى المجتمع الدولي، أوجّه الاتهام لمن يبّرر، لمن لا يدين، لمن يدين لكنه يحمي المجرم من المساءلة. أوجه الاتهام لمن يحدد موقفه بحسب اسم الضحية وبحسب اسم المجرم. لكل هؤلاء أوجه اتهامي في اغتيال شيرين وفي إفلات قاتلها من العقاب.

لا أوجه الاتهام فقط إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي. من هذا المنبر، إنني أوجّه الاتهام أيضًا لما يسّمى المجتمع الدولي، أوجّه الاتهام لمن يبّرر، لمن لا يدين، لمن يدين لكنه يحمي المجرم من المساءلة

يجب أن نعترف أن هذا المجتمع الدولي شريك في الجريمة: شريك بالصمت أحيانًا وشريك بالتواطئ أحيانًا أخرى. كم جريمة في أرض فلسطين منذ عقود مرّت دون عقاب؟ كم خرق لقوانين واتفاقيات دولية مرّ دون حساب؟ كم صحفي اُغتيل قبل شيرين برصاص الاحتلال وكان إفلات القاتل من العقاب محفزا له ليرتكب المزيد من الجرائم؟ هل تعلمون أنه بعد 3 أسابيع فقط من اغتيال شيرين، كرّر المحتل جريمته واغتال صحفية أخرى هي غفران هارون حامد الرواسنة عند مدخل مخيم العروب شمال الخليل؟ 

إن استمرار عدم إحالة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين المحتلة على القضاء الدولي ومحاسبتهم يؤدي إلى استمرار دوّامة الانتهاكات التي لا تكفّ يوما وبالتالي لا بدّ من وضع حدّ لها إحقاقًا لقيمة الإنصاف والعدل. ولا تقتصر مشكلة الإفلات من العقاب على عدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات التي يقع ضحيتها الصحفيون، بل تمتدّ إلى تقييد حرية التعبير بما يحرم المجتمع المحلي وأيضًا الدولي من إسهامات الصحفيين وبالخصوص نقل المعلومة وهو ما يعني وبالضرورة وبالتبعية ضرب حرية الصحافة. وإن ظاهرة الإفلات من العقاب تمادت بخصوص الضحايا الصحفيين إلى درجة إقرار يوم 2 أكتوبر يومًا عالميًا لإنهاء إفلات المُجرمين من العقاب عن جرائمهم المُرتكبة ضد الصّحفيين، وها نحن ننتظر إنهاء هذا الإفلات.

إن محاسبة المسؤولين عن قتل شيرين أبو عاقلة، من أمر ومن نفّذ ومن منع التحقيق ومن يحمى الفاعلين الرئيسيين والشركاء هو حقّ وضرورة ملحّة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، لتحقيق الردع ومنع تكرار الانتهاكات والاغتيالات. إن مكافحة الإفلات عن العقاب لا يجب أن تظلّ مجرد ردة فعل على حادثة اغتيال معينة بل يجب أن تتحوّل إلى أسلوب نضالي قارّ بما تتضمنه من آليات وخطط وذلك إلى غاية تحقيق العدل عبر مساءلة كل منتهك. إن القوانين والاتفاقيات الدولية ما صدرت إلا لتطبّق، أليس كذلك؟ لأن الشكّ حال أمام غلبة لا تكفّ وجرح لا يندمل.

أعضاء اللجنة الموقرة

مارست شيرين مهنة الصحافة شاهدة على جرائم الاحتلال الإسرائيلي. وظلّت شاهدة لآخر رمق في حياتها بل لآخر اللحظات قبل مواراتها الثرى بعد تعرّض جنازتها للاعتداء عن وحشية هذا القاتل الذي لا يخجل.

نعم، فقدت القضية الفلسطينية باغتيال شيرين شاهدة صحفية ناقلة للحقيقة، ولكن للقضية شهود في كل شبر ثم أن شيرين لوحدها باتت اليوم قضية. نعم اغتالوا شيرين جسدًا ولن نكفّ يوما عن النضال من أجل ملاحقة قتلتها ومحاسبتهم في كل مكان في العالم، لكن لم يغتالوا شيرين صوتًا وصورة ورمزًا، لم ولن يغتالوا الحقيقة.

وأختم مرافعتي حاملاً العلم الفلسطيني انتصارًا لعدالة قضية شيرين ولعدالة القضية الفلسطينية. وأختم أيضًا بخاتمة شيرين في تقاريرها التي ستبقى حيّة في آذاننا أبد الدهر: شيرين أبو عاقلة من القدس المحتلة، شيرين أبو عاقلة من رام الله، شيرين أبو عاقلة من حاجز قلنديا. إنها شيرين أبو عاقلة صوت الحقيقة الذي لا يُغتال!