12-ديسمبر-2023
صورة لجنود الاحتلال في عدوانهم على قطاع غزة. 11 ديسمبر 2023

صورة لجنود الاحتلال في عدوانهم على قطاع غزة. 11 ديسمبر 2023

بعد إطلاق عملية التسوية السلمية، أنشأت "إسرائيل" ما أسمته "مركز عمليات الوعي"، ليكون واحدًا من أقسام جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان"، ويتخصص في إدارة الحرب النفسية، وإنشاء مواقع إلكترونية تتقمص هوية جهات مختلفة، لكن أغلب عملياته تظل سرية، فيما يُعرف القليل منها، وهو إعداد منشورات دعائية وتوزيعها في فلسطين أو لبنان. 

مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، أعاد رئيس أركان جيش الاحتلال آنذاك موشيه يعلون تنشيط المركز، وأطلق أكبر حرب نفسية في تاريخ جيش الاحتلال حتى تلك اللحظة، وكانت تحمل عنوان "كي الوعي"، وتهدف إلى الضغط على السلطة الفلسطينية والفلسطينيين عمومًا، وإقناعهم أن العمل المسلح لن يحقق أي إنجاز لهم.

استأجر جيش الاحتلال خدمات مدير قناة أخبار أمنية على "تيليغرام" بصفته "مستشارًا في حرب الوعي".

لكن الحرب النفسية التي يديرها الجيش الإسرائيلي لا تقتصر على الفلسطينيين فقط، وإنما يقع في نطاق أهدافها أيضًا الإسرائيليين لتشكيل الرأي، ومهاجمة من يغرد خارج السرب من الصحفيين الإسرائيليين. 

وقد كشفت صحيفة "هآرتس"، في 18 أغسطس 2021، على صفحتها الأولى، أنّ مدير قناة أخبار أمنيّة على تطبيق "تيليغرام" يتقاضى راتبًا من الجيش الإسرائيلي لقاء خدماته بصفته "مستشارًا في حرب الوعي".

وبحسب الصحيفة فإن جيش الاحتلال استأجر منذ نحو عامين خدمات (ج) الذي يدير قناة إخبارية على تطبيق "تيليغرام" يطلق عليها "أبو علي اكسبرس"، وحظرت الرقابة العسكرية الإسرائيلية نشر تفاصيل اسم (ج) الذي تحوّل في السنوات الأخيرة إلى واحد من أكثر الشخصيات تأثيرًا على "تيليغرام" في القضايا المتعلقة بالعرب والأمن خصوصًا حماس وقطاع غزة، ويتابعه 340 ألف شخص.

ويكثر "ابو علي اكسبرس" من مهاجمة صحفيين إسرائيليين بارزين ينتقدون سياسة الجيش الإسرائيلي تجاه حركة حماس، ويحاول أحيانًا إلحاق الضرر بمصداقيّتهم.

إذن فالجيش الإسرائيلي لا يوجه الحرب النفسية ضد الفلسطينيين فقط، وإنما داخليًا أيضًا، وذلك لرفع معنويات جمهوره وتحطيم معنويات العدو.

ولتحقيق هذه الغاية في ذروة المعارك، تلجأ الجيوش إلى "تكتيك تحطيم صورة الخصم"، مثلاً في حرب لبنان الأولى سارع الجيش الإسرائيلي إلى إجبار مدنيين فلسطينيين ولبنانين في منطقة صور على خلع ملابسهم ورفع الرايات البيضاء ونشر صورهم، والادعاء أنهم مقاتلين استسلموا، هذا الإجراء يسميه الجيش الإسرائيلي "طوابير القردة"، ويستخدم لتحطيم معنويات العدو، ويتم وأيضًا عرضها في الأفلام التسجيلية التي يشاهدها الجنود لنزع الرهبة من المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين.

صعقت "إسرائيل" في صباح السابع من أكتوبر بضربة معنوية أغرقت جمهورها في حالة فزع وقلق وجودي غير مسبوقة، ناجمة عن فشل استخباري تقاسمته الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش "أمان"، وجهاز "الشاباك"، وجهاز "الموساد".

يحاول الجيش الإسرائيلي استغلال فيديوهات إلقاء القبض على المدنيين في غزة بملابسهم الداخلية كوسيلة دعائية لإقناع جمهوره بالانتصار، وإجبار المقاومين على الاستسلام.

 كل هذه الأجهزة لديها أقسام دراسات عجزت عن تقدير "نوايا الخصم"، وخططه واستعداداته الميدانية و التسليحية والتقنية، تجلى هذا أيضًا في انهيار عسكري عندما فشل الجيش في تأدية واجبه الرئيس، وهو عجزه عن حماية تحصيناته، كما لم تتمكن قواته من التدخل السريع أو تنفيذ هجوم مضاد سريع. هذا كله رسم في مخيلة الجندي والمدني في إسرائيل إسطورة "نخبة حماس"، بفعل الفيديوهات التي تدفقت إليه من مواقع تليغرام وبقية مواقع التواصل، فيما كانت  وسائل الإعلام العبرية تحت تأثير حالة الشلل.

وفي السابع من أكتوبر كانت "اسرائيل" وجيشها في دائرة ردة الفعل التي اتسمت بالارتباك على صعيد القوات المكلفة بمهمة التأهب على مدار الساعة للتدخل السريع في أي طارىء عسكري. 

وبعد أيام بدأ الجهد الدعائي للجيش الإسرائيلي يتوجه نحو "تحطيم صورة النخبة" في عيون جنوده وجمهوره، من أجل تملك القدرة على نزاله في الميدان، كذلك في عيون الفلسطينيين لتفادي تحويل عناصرها إلى قدوة خصوصًا في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر.

وبثت فيديوهات، عبر مواقع التواصل الاجتماعي خاصة قنوات تيليغرام، ينكل فيها جنود الاحتلال بأشخاص عراة، تبين لاحقًا أن أكثر هذه الفيديوهات انتشارًا هي لعمال من جنوب الضفة الغربية كما أكد نشطاء حقوق إنسان إسرائيليين.

أهمية العامل النفسي في هذا الحرب في تفسير سلوك الجيش الإسرائيلي تتجلى فيما قاله المعلق العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل، عندما رجح أن رفع معنويات الإسرائيليين قبل عدة أسابيع هو الدافع وراء خروج المسؤول العسكري الإسرائيلي الكبير، الذي أبلغ الصحفيين أن الجيش قتل بنيرانه 20 ألف فلسطيني، غالبيتهم العظمى من مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي على حد قوله.

المعلق السياسي لصحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية ناحوم برنيع تحدث عن ملامح الحرب النفسية التي يشنها الجيش الإسرائيلي بالقول: "تجري معركة نفسية أمام جماهير مختلفة: الأولى أمام ما تبقى من الجناح العسكري لحماس، والثانية أمام السكان في غزة، والثالثة أمام الجمهور في "إسرائيل"، والرابعة أمام أهالي المختطفين، والخامسة أمام الإدارة والرأي العام الأميركي". 

مضيفًا أنه عندما يتم تداول صور للمئات من الرجال الغزيين وهم يُقتادون في خرائب حي الشجاعية بملابس داخلية فقط، فإن هذا من شأنه أن يسعد الجمهور الإسرائيلي ويدفع الحمساويين إلى الاستسلام، أما في وسائل الإعلام العالمية فقد ألحقت الصور ضررًا دعائيًا، لا يعرف الجيش الإسرائيلي كيفية إصلاحه.

 ولكي يُفهم، ما يصفه ناحوم برنيع بحرص الجيش على نشر صور الرجال وهم عراة رغم الضرر الدعائي، فإنه يجب العودة إلى مقالٍ نشرته صحيفته بعنوان "العملية التي أعادت لجيش الدفاع الإسرائيلي احترامه"، وذلك بعد مرور 39 عامًا، إذ كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أريئل شارون أن بن غوريون قال له: "أنا لا أرى أهميةً جديّةً لما سيقال عن عملية قبية في أرجاء العالم، المهم كيف سيُرى الأمر في منطقتنا، وهذا سيُمكّننا من العيش هنا".