13-يناير-2021

في الثاني عشر من آب/ أغسطس 1931 ولد حمدي محمد مطر، بعد شهور قليلة من خروج والده محمد مطر الخطيب، دقّيق الحجر، من اعتقاله الأول على يد سلطات الاستعمار البريطاني إثر انتفاضة أهالي قالونيا غربي القدس على مستوطنة موتسا المجاورة للقرية. التحق حمدي بالتعليم الأساسي في قريته قبل أن ينتقل في العام 1942 إلى مدرسة قرية لفتا المجاورة. ثم انتقل في المرحلة الثانوية إلى المدرسة العمرية بنظام الدراسة المسائية الخاصة بعد حرمانه من تحقيق حلمه بالالتحاق بالمدرسة الرشيدية لكبر سنه آنذاك، واكتمل الحرمان باندلاع حرب 1947-1949.

 ولد حمدي محمد مطر، بعد شهور قليلة من خروج والده محمد مطر الخطيب، من اعتقاله الأول على يد سلطات الاستعمار البريطاني

حرم مطر أولاً من قريته بعد لجوء أهلها للقدس إثر اشتداد المعارك على طول طريق يافا القدس، التي كان للقرية كما لوالده حصة رئيسة فيها. استذكر مطر إحدى هذه المعارك، ولعلها المعركة التي اشتهرت باسم معركة بيت سوريك، التي وقعت يوم 24 كانون الثاني/ يناير 1948 واجتمعت فيها البنادق، علق مطر عن هذه المعركة: "كانت هذه المعركة، معركة الأنصار ووحدة الدم المبكرة في قالونيا، حيث تلاحم الدم العربي والفلسطيني، دم أبناء القرى الغربية للقدس المقدسة، فكانت درسًا في إمكانية النصر إذا توحدت إرادة القتال والدفاع عن الحق، وكانت أيضًا دافعًا لقدوم المزيد من المقاتلين العرب من قرى غرب رام الله كما كان يطلق عليهم، وعدد من رجال مقاتلي ’الجهاد المقدس‘ الذين اتخذوا أحد منازل القرية الكائن في أعلى منطقة في القرية مقرًا لهم".

اقرأ/ي أيضًا: عن انتفاضة السلاح، استعادة لأثر!

 ثم حرم مطر من استكمال دراسته الثانوية، يقول مطر: "لعل كتبي ما تزال معلقة على شجرة زيتون في الطريق إلى القدس"

خلال الشهور التالية للحرب قرر ذوو مطر الهجرة إلى شرقي الأردن والاستقرار في أحد مناطق عمان. بعد وصول الحافلة حاملة لعائلة محمد مطر وسلامة حسين سلامة، توجه شعبان سلامة لإحضار "طمبر" لنقل الأمتعة إلى المكان المجهول، وأثناء الانتظار على الرصيف خرج صاحب أحد محلات حلويات عمان، وطلب منهم باستياء الابتعاد عن "رصيفه"، قائلاً: "انزاحوا من هنا فهذا باب للرزق". علق مطرق: "أدركت أن الأمر يختلف وسيختلف باختلاف المكان، هنا ليس كما هناك، هنا عمان وهناك قالونيا". وستطول الرحلة في عمان بحثًا عن الاستقرار.

في أواخر العام 1952، زار مطر لاجئ آخر، هو الأستاذ اللفتاوي محمد ربيع، قدم له نشرة الثأر لتبدأ سلسلة من الجلسات انتهت بالتحاق مطر في ربيع 1953 لما سيعرف لاحقًا بحركة القوميين العرب، ويقسم اليمين أمام الدكتور جورج حبش في عيادته في عمان. وبعد القسم التقى بمسؤوله التنظيمي لاحقًا الدكتور وديع حداد. ليبدأ مسيرة من النشاط التنظيمي المتواصل وعينه على فلسطين، فيتدرب على السلاح ويبدأ بحفظه استعدادًا للمعركة.

قطعت هذه المسيرة محطات متتالية من الاعتقال والملاحقة، خصوصًا مع تقدمه في المواقع التنظيمية

قطعت هذه المسيرة محطات متتالية من الاعتقال والملاحقة، خصوصًا مع تقدمه في المواقع التنظيمية ليكون في الاعتقال الأخير في نيسان/ أبريل 1966 عضوًا في قيادة إقليم الأردن، ومسؤولاً عن العمل الفلسطيني فيها.

اقرأ/ي أيضًا: ذكر الرجال بحفظ تاريخهم: هامش على "الفدائي" لطوقان

هذه السيرة الموجزة لمطر، تتقاطع مع الكثير من سير الفلسطينيين الذين نشأوا في ظلال الاستعمار البريطاني لأرضهم، وفي ظلال مقاومتهم التي بدأت بحلوله أواخر العام 1917 ولم تنته. والذين تهجروا من ديارهم بعد حرب 1947-1949 فشهدوا نشوة فعل المقاومة، وشهدوا ذل الهجرة والتهجير. والذين بدأوا بالبحث عن الطريق، الطريق لتحرير أرضهم التي سلبت منهم وسلبوا منها، فأسسوا الأحزاب، أو انتموا إلى ما وجد منها، فزجوا في السجون والمعتقلات لسنين.

لكن الاستثناء في سيرة مطر سيبدأ بعد الهزيمة، الهزيمة الثانية.

كتب مطر، الذي كان خرج كما معظم قيادات القوميين العرب المعتقلين في نيسان/ أبريل 1966 في عفو ملكي، وهو العفو الذي تكرر في حياة مطر كثيرًا، والذي كان سمة لافتة في النظام السياسي الأردني بقيادة الملك حسين: "كانت الصورة مشوشة وغير واضحة للجميع، ولكنني بادرت عصر ذلك اليوم المشؤوم بالاتصال بالرفيق أحمد محمود إبراهيم والرفيق أبو علي مصطفى [كان أحمد محكومًا في الإعدام وأبو علي بالسجن خمس سنوات قبل خروجهما في العفو أيضًا، وكان مطر هو من جند أبو علي للالتحاق بصفوف القوميين العرب]، بصفتي عضوًا في قيادة إقليم الأردن لحركة القوميين العرب، وحددت لهم موعدًا للقاء في منزلي لمناقشة ما يجري من عدوان إسرائيلي شامل على كل من مصر والأردن وسوريا وما هو دورنا في هذه المعركة، وفي اليوم التالي انقطعنا ثلاثتنا عن العمل حيث كنت أعمل في شركة الكهرباء كما ذكرت، وأحمد يعمل في شركة مصانع الاسمنت في الفحيص، وأبو علي كان يعمل في شركة مصانع الكرتون في الرصيفة، عند لقائنا الأول لم يخطر ببال أحد منا أي عمل نقوم به سوى المشاركة في المعركة بما تيسر لنا من أسلحة، فقمت بإخراج خمس قطع من السلاح كانت مخبأة في منزلي، وبعد تنظيفها قمنا بتجريبها بإطلاق بعض الرصاصات من كل رشاش، ثم اتفقنا أن نتوجه في اليوم التالي إلى الضفة الغربية".

بدأ مطر وأبو علي مصطفى وآخرون يتذكرهم مطر في التحضير لإرفاد الضفة الغربية بالرجال والسلاح

كانت هذه البداية، لم يستطع مطر الوصول إلى محطته، فعاد ومن معه إلى عمان لتبدأ مرحلة جديدة من الإعداد والاستعداد، فوجه أبو علي مصطفى لاستطلاع إمكانية الوصول والعمل العسكري في الضفة التي صارت محتلة، ثم بادر مطر بالتواصل مع وديع حداد يتحدث فيها عن تفاصيل فعلهم المبكر، فرد حداد مشجعًا، وأن السلاح في دمشق بانتظارهم، فوصل السلاح الأول بعد تهريبه بيد أبو عيسى، أحمد محمود إبراهيم، الرجل الصلب الذي صمد في وجه التحقيقات، ولم يكن كما مطر وأبو علي جزءًا من الانهيار العام الذي حدث في السجون بعد نيسان/ أبريل 1966، وكانت رغبة حداد أن يقتصر العمل في محطته الجديدة على من صمد.

اقرأ/ي أيضًا: رام الله: غزلٌ قديم في ثورتها!

بدأ مطر وأبو علي مصطفى وآخرون يتذكرهم مطر في التحضير لإرفاد الضفة الغربية بالرجال والسلاح، واستقطب كادرًا عسكريًا مميزًا من جنود الكتيبة 421 التي تأسست في العراق بعد تأسيس جيش التحرير الفلسطيني، وحضر إلى الأردن للمشاركة في الحرب لكنه لم يستطع تجاوز أريحا وعاد ليستقر في الأردن.

تأسس نشاط عسكري كان مطر أحد أعمدته الرئيسية، كما كان كوادر جيش التحرير، الذين يتذكرهم مطر وإن نسيهم الآخرين. وسبق أن دون بعض هؤلاء تجربتهم، كما فعل موسى الشيخ أبو كبر عام 2012 في الشمس تولد من الجبل، وحافظ أبو عبية عام 2004 في الشمس في منتصف الليل - 18 عامًا في سجون الاحتلال.

خلال هذه المرحلة أسهم مطر في تحقيق الرؤية العسكرية الأساسية للجبهة الشعبية، التي كان أحد أبرز مؤسسيها، القائمة على اعتبار الداخل المحتل هو الأساس والخارج رديف. وأسهم في التصدي للانشقاق الأول في الجبهة.

أسهم مطر في تحقيق الرؤية العسكرية الأساسية للجبهة الشعبية، القائمة على اعتبار الداخل المحتل هو الأساس والخارج رديف

هذا الدور المركزي لمطر خلال هذه المسيرة مع حركة القوميين العرب من لحظتها الأولى في الأردن، ثم مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من لحظتها الأولى أيضًا. ربما كان مؤهلاً لأن يحضر بكثافة في مذكرات مؤسس الحركتين وقائدهما الأول، جورج حبش، المنشورة عام 2019 بعنوان صفحات من مسيرتي النضالية، لكن اقتصر حضور مطر في هذه المذكرات على أربع مرات. أولى تتحدث عنه بوصفه قائدًا للعمل في المخيمات (ص 85)، ثم عن انتخاب مطر لعضوية اللجنة المركزية المنتخبة من المؤتمر الثاني للجبهة في شباط/ فبراير 1969 (ص 175)، وثالثة يتذكر فيها حبش صمود رفاقه في معارك أيلول فكتب: "أذكر جيدًا كيف كان الرفيق أبو سمير، حمدي مطر، يستيقظ في الصباح وهو ينشد الأناشيد الوطنية والأغنيات، ويمازح الرفاق باستمرار. حتى في اليوم الذي كان الجيش الأردني يقصف قاعدة قيادتنا، كان أبو سمير وبعض الرفاق على المستوى نفسه من الصمود والتحدي" (ص 205). والأخيرة قوله: "ولم يبق في الساحة الأردنية من قيادة الجبهة سوى [...] أبو سمير ’حمدي مطر‘ في سجن الجفر وآخرين" (209).

اقرأ/ي أيضًا: 3 فدائيين من زمن نابلس الجميل

ما مبررات هذا الاختفاء لحمدي مطر؟ والتي ربما تكون أيضًا مفسرة لعدم الاعتناء بسيرته وتقديمها بوصفها سيرة لواحد من "الأبدال"، سواءً من المؤسسات البحثية أو التنظيمية، فنشرها الورثة بعد وفاة مطر بعنوان مذكرات حمدي مطر قائد ومؤسس في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 2015، التي كان دفعها لأحد رفاقه في التجربة التالية لهزيمة حزيران/ يوليو أسعد محمد عبد الرحمن لتقديمها والنظر فيها.

ربما الهزيمة الثالثة وما تلاها من قرار لمطر بالبقاء كانت سببًا لتغيير مصيره، واختفاء سيرته، من الاحتفاء الرسمي بالحد الأدنى، فالذكر سيبقى ويتجدد لكادر وقادة المرحلة الجديدة. رغم أن سيرة مطر وفعله وفعل رفاقه في الأرض المحتلة خلال الشهور التالية لهزيمة حزيران/ يونيو 1967، ستبقى سيرة تحدي وصمود على الطريق الذي اختاره.

صباح 13 تموز/ يوليو 1971 كانت النهاية، بدأت المعارك الأخيرة بين الجيش الأردني وقوات الفصائل الفلسطينية المختلفة، سقط من سقط واعتقل البقية ومن بينهم حمدي مطر وأبو علي مصطفى، أتى ضابط الاستخبارات وطلب من الموجودين ذكر تنظيماتهم، واستفسر عن قادتهم، فتصدى مطر للضابط وأعلن أنه المسؤول الأول عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حرصًا منهم على حياة أبو علي مصطفى الذي شغل مواقع رئيسية عدة في الإطار العسكري للجبهة خلال الشهور السابقة لهذه المحطة، وكان أبو علي سجل اسمه في قوات التحرير الشعبية بالتعاون مع أحد قادتها ليكون من أوائل من أفرج عنهم.

ستحرم رحلة السجون هذه مطر من التصدر، وسيختفي ذكره، وربما لم تحفظه آنذاك إلا جدران الزنزانة 13

انتقل مطر بعد هزيمة الفصائل الفلسطينية في الأردن، إلى سجن الجفر، ليبدأ في رحلة جديدة مع السجون تجدد سيرته الأولى معها قبل حزيران/ يونيو 1967، تبدأ باعتقال وتنتهي بعفو ملكي أو إفراج. ستحرم رحلة السجون هذه مطر من التصدر، وسيختفي ذكره، وربما لم تحفظه آنذاك إلا جدران الزنزانة 13. قطع مطر هذه الرحلة بخروجه في حرب 1982 إلى لبنان، ليقاتل، كما قاتل بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 فتوجه إلى لبنان برفقة عدد من كوادر الجبهة في الأردن، لبنان التي كان يقاتل فيها ولده "توحيد"، ويشارك في المعارك وإدارة الحرب خارج بيروت إلى جوار رفيق رحلة حزيران/ يونيو، ورحلة تموز/ يوليو أبو علي مصطفى، وكان شعاره في هذه الرحلة كما قال لرفيقه أبو عيسى، أحمد محمود إبراهيم، الذي كان خرج من الجبهة وأسس حزب الشعب الثوري الأردني، "يشرفني ألف مرة أن أكون عضوًا في خلية للجبهة الشعبية ولا رئيسًا لأي حزب".

لم يبتعد مطر عن الأردن كثيرًا، فغادر دمشق -التي لجأ إليها بعد الخروج من بيروت- إلى الأردن، ليعتقل من جديد، بعد تجدد المعاناة، سأله المحقق عمر العمد، وهو يخبره عن معارك طرابلس بين الفدائيين، "ماذا ستفعل بعد خروجك من السجن؟"، فرد مطر "سأشتري كمية من الطوب وأقوم ببناء زنزانة لي فوق سطح بيتي، وأفتش عن شاويش متقاعد وأضعه حرسًا على الزنزانة".

خرج مطر يوم 11 أيلول/ سبتمبر 1984 بعد وفاة شقيقه، وواصل نشاطه داخل الأردن، ليعتقل من جديد غيرة مرة. وبعد سنين سيعود مطر إلى السجن، لكن هذه المرة إلى سجن أريحا زائرًا لأحد مقاتلي الجبهة الشعبية عبد الناصر القيسي، الذي حكم في كانون الأول/ ديسمبر 1996 بالسجن المؤبد ورفيقه إسماعيل علقم، فيما حكم رفيقهم إبراهيم مسعد هاني بالسجن 15 عامًا لاتهامهم بتنفيذ عملية في ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية ضد مستوطني مستوطنة "بيت أيل".

كان مطر دخل إلى الضفة الغربية بوصفه عضوًا في المجلس الوطني يوم 4 آذار/ مارس 1996. منع مطر ومن رافقه من أقاربه من مغادرة أريحا إلى رام الله، أوقفهم ضابط برتبة رائد على الحاجز الفلسطيني ليخبره بالقرار، أجاب أحد أقاربه "خالي عضو مجلس وطني فلسطيني"، فأجابه الرائد "وما يكون.. أصلا هذول قاعدين على الكراسي ورا المكاتب وإحنا الي نتعب ونشقا"، فرد مطر "يا أخ، أنا عشت تجربة العمل الفدائي في الأردن واعتقلت فترات طويلة، ووالله ما شفتك لا جنب النهر ولا في السجن..".


اقرأ/ي أيضًا: 

"لا تزر أحدًا.. لا تستقبل أحدًا" عن تجربة الاختفاء فلسطينيًا

في "واد عقربا".. الثورة تصطاد كبار جيش الاحتلال