04-أكتوبر-2018

أسدل رؤساء وقادة العالم الستار عن المناقشة العامة للدورةالـ73 للجمعيةالعامة للأمم المتحدة، وتركوا خلفهم طائفة واسعة من القضايا والصراعات الدولية والمآسي الإنسانية بلا حلول. وكما كان متوقعًا فقد شارك رئيس السلطة الفلسطينية أو رئيس دولة فلسطين محمود عباس؛ كما يحلو للبعض تسمية الجزر المعزولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، في مناقشات الجمعية العامة بهدف حثّ العالم الحفاظعلى حل الدولتين. وكذلك شارك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بهدف تحذير العالم من التهديد الذي يحيط بإسرائيل مستخدمًا معلومات ومصادر أمنية واستخباراتية، ودون أي اهتمام بحل الدولتين. يتغذى عباس على مشروع حل الدولتين الذي يخدم أهدافه وتطلعاته بهدف حماية نفسه والنخب الكلاسيكية المحيطة به، بينما يتغذى نتنياهو الذي أحاط نفسه بمجموعة يمينية متطرفة على حل الدولتين بهدف استمرار تخويف العالم من الخطر الذي تتعرض له.

يتغذى عباس على مشروع حل الدولتين الذي يخدم أهدافه وتطلعاته بهدف حماية نفسه والنخب الكلاسيكية المحيطة به

 

عقم فلسطيني، وتطرف إسرائيلي، وانكشاف أميركي

يبدو الشكل القائم للسلطة الفلسطينية التي دُعمت أو على الأقل وقف العالم إلى جانبها مؤيدين لحل الدولتين قد انتهت. على الرغم من أن السلطة الفلسطينية لطالما هددت "أن تدمير خيار حل الدولتين وغياب السلطة الفلسطينيةسوف يؤدي إلى تدمير فرص التسوية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين". اليوم هذا الواقع تغير، ولا سيما مع نهاية عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، إذ باتت السلطة ترى "أن تدمير خيار الدولتين وترسيخ الدولة الواحدة بنظامين سيؤدي إلى نظام فصل عنصري". في الآونة الأخيرة ارتفعت حدّة خطابات الرئيس الفلسطيني محمود عباس؛ كأطول رئيس فلسطيني خدم السلطة منذ إعلان حل الدولتين، وعلى وجه الخصوص مع ارتفاع حدّة قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس وقطع المساعدات الأميركية عن "الأونروا"، وقرار الحكومة الإسرائيلية تهجير الفلسطينيين المقيمين في منطقة الخان الأحمر، إلا أن هذه الخطابات تبقى بلا أدنى قيمة أو أهمية أو تأثير.

اقرأ/ي أيضًا: فشل مسار التسوية .. فشل مسار المقاومة

انتهج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ كأطول زعيم إسرائيلي خدم حكومته منذ إعلان حل الدولتين، سياسةً يُمكن أن تقترب من الوسطية في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، إذ أيّد حينها شكليًا قيام دولة فلسطينية بشرط اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة. بينما اليوم، ومع تنامي التيارات اليمينية والشعبوية في العالم من جهة ولا سيما في أميركا، ووجود حكومة مستوطنين إسرائيلية مدعومة من نخب متطرفة من المجتمع الإسرائيلي من جهة ثانية، حصل نتنياهو على رخصة تسمح له التعبير عن رغباته الحقيقية باحتقار الفلسطينيين وإذلالهم وممارسة كافة أشكال التطرف بحقهم. وبلا شك برز ذلك بشكل واضح مؤخرًا مع مصادقة الكنيست الإسرائيلي على قانون الدولة القومية اليهودية.

منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أقل من عامين، بدأت خطوات الإدارة الأميركية تتسارع لاتخاذ جملةٍ من القرارات بشأن القدس واللاجئين والاستيطان، وهي التي كانت تسير ببطئ في عهد الإدارات الأميركية السابقة، وإداراة أوباما على وجه التحديد. وقد حملت قرارات ترامب انكشافًا هامًا بالسياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية. ولهذا، باتت قرارات ترامب وإدارته تعرف على أنها تمثل تجسيدًاحقيقيًا للأنانية والانعزالية والحمائية الأميركية التي تهتم بالداخل الأميركي فقط، وبلا شك تتقاطع هذه القرارات مع معسكر اليمين المتطرف في إسرائيل. وعندما تتسارع وتيرة قرارات ترامب وإدارته، فإنها تسمح لاستفرادٍ إسرائيلي أيضًا بالفلسطينيين.

من قتل حل الدولتين؟

في ربع القرن الماضي أرست السلطة الفلسطينية نموذجها المشوّه لفلسطين، وبات هذا النموذج يعرّف على أنه فلسطين الجديدة، وخلقت إسرائيل لنفسها نموذجًا يمينيًا متطرفًا لا مجال فيه لمعارضة نظام الاستعمار. وبذلك حصل نموذج الاستعمار الاستيطاني على أفضلية البقاء، في مقابل انشغال الفلسطينيين في فهم مشكلة التشوّه وانشغال الإسرائيليين في تكريس التطرف.

دخلت فلسطين الجديدة مرحلة الموت البطيء منذ نشأتها عام 1993، ودون إعلان وفاتها. فعلى الرغم من اعتبار البعض لها بأنها أفضلُ حل ممكن يحقق للفلسطينيين حلمهم، إلا أن الانتقال باستحداث هذا الخيار المدعوم من قبل القوى الإقليمية والدولية، لم يوقف التحديات التي واجهتها القضية الفلسطينية ولم يُعطِ منظمة التحرير الفلسطينية السيّادة التي حلمت بها، بل أخذت بيّد الفلسطينيين إلى تعميق أزمتهم؛ إذ عبّرت عن نموذج لا يسمح بسيّادة فلسطينية على أي بقعة جغرافية من الأرض المحتلة بينما يسمح بسيّادة المستعمِر الإسرائيلي على هذه الأرض، وهذا يعني أن حق الفلسطينيين بالسيّادة على حساب حقهم بالتحرر، رهنّ منذ اليوم الأول بتنسيق أمني واقتصادي مع إسرائيل؛ والتنسيق هنا بات وصفةً لتمكين السيادة الإسرائيلية.

استند النموذج الفلسطيني المشوّه منذ نشأته على ثلاث سلطات، ولكن السلطة التنفيذية حسمت موقفها مبكرًا وهيمنت على القرار الفلسطيني

استند النموذج الفلسطيني المشوّه منذ نشأته على ثلاث سلطات وهي التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولكن السلطة التنفيذية حسمت موقفها مبكرًا وهيمنت على القرار الفلسطيني. وفي أعقاب تعرضها لجملة من الضغوطات الدولية بهدف إصلاح نفسها والتنازل عن هيمنتها، سمحت السلطة التنفيذية لنفسها تخفيف سطوتها بهدف الحصول على الدعم والمساعدات الدولية وبذلك فتحت الطريق أمام ارتهان القرار الفلسطيني بيد المؤسسات الدولية المانحة.

اقرأ/ي أيضًا: عن المقاومة الموسمية

بدا ذلك وصفةً مناسبة، ولا سيما مع تولي الرئيس عباس زمام السلطة، إذ فتحت خطط الإصلاح والتنمية التي استند عليها عباس لدعم حل الدوليتن، المجال لنموذجين من النخب الجديدة: الأول؛ يدّعى نموذج "الأمن أولًا"؛ والقائم على حصول السلطة على منح مالية وتخفيف احتلال مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية مقابل قيامها بتقديم جهد إضافي لمنع مقاومة إسرائيل، وبالفعل باتت السلطة مؤخرًا تدعم تعيين العديد من المحافظين ممن خدموا في الأجهزة الأمنية لتكريس نموذجها الأمني. والثاني؛ يدعى نموذج "التكنوقراط"؛ والقائم على نخبة من الأفراد المهنيين والتقنيين غير المرتبطة مصالحهم مع النخبة السياسية، وبالفعل منذ الانقسام الفلسطيني بات الفلسطينييون أسرى لنخبة تكنوقراط لا حول لها ولا قوة.

بالفعل، حسمّت نخبة فلسطين الجديدة والقائمة على النموذج الأمني والتكنوقراطي منذ عام 2006 قرار شريحةٍ واسعة من الفلسطينيين تسعى إلى البحث عن تحسين أوضاعها الاقتصادية ومكانتها الاجتماعية وتطويرها في الضفة الغربية أو قطاع غزة. وبهذا باتت القضية الغائبة هنا، ليس من يمتلك القوة في الضفة الغربية ولكن مني فقدها، فنموذج فلسطين الجديدة ليس صعودًا للدولة الفلسطينية، بل هو صعود لنخبة جديدة في مقابل إذلالٍ وفقر وتهميش لبقية الفلسطينيين. وهذا يبدو أقرب إلى تفسير تحوّل نخبة حركة حماس التي حسمت موقفها بالدخول في هذا النموذج الفلسطيني، وهي التي وجدت نفسها وحيدة وبخياراتٍ سياسيةٍ ضيقة. إذ حمل التحول من الميثاق التأسيسي الصادر عام 1988 إلى الوثيقة الصادرة عام 2017، اعترافًا رسميًا بحل الدولتين على أساس عام 1967، وهذا يعني ضمنيًا قبول نموذج الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.

إسرائيليًا، أصرت الحكومة على اعتراف ياسر عرفات بها عام 1993، إذ قال "إن منظمة التحرير تؤكد أن بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر حق إسرائيل في الوجود وبنود الميثاق التي تتناقض مع الالتزامات الواردة. أصبحت الآن غير ذات موضوع ولم تعد سارية المفعول". بهذه الكلمات، أعطى عرفات أفضليّة التعامل مع إسرائيل على التعامل مع الفلسطيني، وقد أسس ذلك لنهجٍ يقوم على اعتماد السلطة على "مركز" الاستعمار الإسرائيلي بدلًا عن "هامش" هذا الاستعمار؛ والهامش هنا هو الفلسطيني.

التباين الذي حصل خلال ربع القرن الماضي حيال حل الدولتين يقوم إما على اتخاذ موقف عدائي باعتباره حلاً يقبله العقل ولا المنطق أو باعتباره الطريق الحقيقي للاستقلال وإعلان الدولة

منذ عودة نتنياهو إلى السلطة عام 2009، بدأ هجومه العنيف على جميع معارضيه وعمل على أخراجهم من المشهد السياسي الإسرائيلي حتى بات الشخصية السياسية الأكثر تأثيرًا في إسرائيل. وفي داخل حزب الليكود عمل نتنياهو على الإطاحة بجميع معارضيه وتمكن من إقصائهم ومن أهمهم؛ سيلفان شالوم وجدعون ساعر. وباتت إسرائيل مكانًا تُحظر المعارضة فيها. ويستثنى من ذلك بعض الشخصيات مثل؛ نفتالي بينت، ويائير لابيد وغيرهم. إلا أن نتنياهو وخلال سنوات حكمه استطاع أن يحيط نفسه بنخبة يمينية متدينة، لا تكتفي بدعمه وتأييد سياسته فحسب، بل وساهمت في العديد من التحولات في المجتمع الإسرائيلي. وقد أدت التصرفات العنصرية بتشريع قانون القومية اليهودية إلى توجيه ضربة قاضية لجميع المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية والباحثين عن نضال يقود إلى الحرية والمساواة.

في حالتنا؛ ما هو الحتميّ النضال أم الدولة؟

إن التباين الذي حصل خلال ربع القرن الماضي حيال حل الدولتين يقوم إما على اتخاذ موقف عدائي باعتباره حلاً يقبله العقل ولا المنطق أو باعتباره الطريق الحقيقي للاستقلال وإعلان الدولة. وقد انتهى هذا التباين الشجاع منذ قرابة عشر سنوات، وبات الفلسطينييون كما الإسرائيليون أمام وجهة نظر شجاعة وبلا إمكانية حقيقية على الأرض.

يفتح التشوّه والتطرف الذي خلقه هذا الحل الشجاع المجال لنضال حتميّ من أجل الحرية والعدالة والمساواة. واليوم أصبح ذا أهمية حقيقية وحتميّة. يجدر القول بأن أنظمة السلطة؛ والمقصود هنا سلطة الاستعمار وأي سلطة تخضع لها، لاتحدد طبيعة وشكل وهدف النضال، ولكنها ومن خلال سياساتها تفرض علينا عدم الاكتفاء بالنضال ضدها فحسب، بل التأثير فيها واستكشافها وفهمها. وهذا يتعارض مع رؤية بعض الرومانسيين الذين يعتبرون جلوس جداتهم في باحة الدار وإشعالها لسيجارة هيشة بأنه مقاومة للاستعمار !

إن النضال الحتميّ الجديد ضد الاستعمار الإسرائيلي والتشوّه الفلسطيني ليس حالة رومانسية تنشغل في تحديد أشكال مقاومة السلطة، فالأهم إلى جانب مقاومة السلطة هو فهمالسلطة واستكشافها والتأثير فيها. وهذا يفرض على كل مناضل أن ينشغل في البحث عن موقفٍ يرفض التعامل مع الاستعمار الإسرائيلي، ويؤمن بأنه يجب القيام بفعل من أجل إنهاء الاستعمار ومخلفاته، ويترتب على هذا الفعل، كما يترتب على نقيضه، أنماطٌ وأشكالٌ للمقاومة (غير محصورةٍ أو محددة) وتؤثر بشكل مباشر عليه.

استنادًا على المأزق الذي نعيش فيه، تصبح مسألة النضال أولى من مسألة شكل الدولة القادمة؛ إذا كان سيبقى حل الدولتين أو سنتوجه نحو دولة أبرتهايد عنصرية. لذا، علينا اليوم أن نؤسس لنضال حتميّ يقودنا إلى الخلاص من نموذج الاستعمار الإسرائيلي العنصري من خلال حفاظ كل إنسان على هذه الأرض على حيزه الخاص، خارج تحكم هذا الاستعمار، وأن تؤسس النخب الجديدة نضالًا ضد الاحتلال والعنصرية وعلى أسس العدالة والتحرر الوطني والديمقراطية وحقوق الإنسان.


اقرأ/ي أيضًا:

التسحيج أن تصدق أن كل شيء بخير

يحدث عند الجدل عن التطبيع

في النسيان.. الذاكرة والجسد