بعد 20 عامًا من ولادة علاقتها بالموسيقى، غادرت ريم عنبر قطاع غزة إلى أوروبا للحصول على الدراسات العليا في هذا المجال، لتكون واحدة من مجموعة فنانين غزّيين هجّرهم الحصار، و"الثقافة المغلقة" حسب وصفهم، وما ينتج عنها من "نظرة سلبية" تجاه الفن والفنانين.
ريم (28 عامًا) بدأت صعود سلّم الموسيقى عندما كانت ابنة 8 أعوام، حيث عزفت على "الأورج" في المدرسة، وتلقت آنذاك دعمًا وتشجيعًا من وزارة التربية والتعليم، ثم بعد ثلاث سنوات بدأت تتعلم العزف على العود من خلال أستاذ موسيقى كان يدرّبها في منزلها.
ريم عنبر تركت قطاع غزة بعد 20 سنة قضتها مع الموسيقى تخللتها مضايقات وتجريح لها ولعائلتها
درست ريم، إدارة الأعمال في جامعة القدس المفتوحة بغزّة مكرهة؛ لعدم وجود تخصّص الموسيقى في جامعات قطاع غزّة، لكنها في الوقت ذاته انخرطت في مجال الموسيقى مع مؤسّسات محليّة منها، "تامر"، و"معًا"، كما عملت في مشاريع تابعة لـ"اليونيسف".
اقرأ/ي أيضًا: كيف تطورت الأغنية الفلسطينية في قلب الأغنية الشعبية؟
عندما تحدثنا مع ريم، كانت في مطار مسقط، تستعد لركوب الطيارة إلى أوروبا، وتدير ظهرها لما تقول إنها "مضايقات ومشاكل وكلام جارح" تعرضت لها، وكذلك عائلتها، منذ انضمامها كعازفة لفرق "صول باند" عام 2016، رغم أن شقيقها عازف في نفس الفرقة.
[[{"fid":"71847","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":419,"width":336,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
تقول ريم: "أعتقد أنّ غزّة تذهب للأسوأ، ولا يوجد فيها مستقبل لأي شيء، رغم احتوائها على الكثير من المواهب والقدرات، ولكن لا يوجد فرص أو دعم حقيقي لهم. ثقافة غزّة مغلقة، ولا يمكن أن تقبل أن تكون الفتاة مغنّية أو عازفة (...) بفكر أرجع على غزّة في المستقبل عشان أعمل شيء مفيد للمجتمع".
غادرت ريم، قطاع غزة، بعد 12 سنة من اتخاذ الفنّان أسامة عيسى (39 عامًا) الخطوة ذاتها، بعد أن أيقن أنّ وجوده هنا "سيهدّد مستقبله الفنّي" وفق قوله.
والفنان عيسى هو مؤسس فرقة الكورال الأولى من فاقدي البصر في القطاع، وأول من درّس عشرات الأطفال عزف الجيتار، كما عالج الكثير بالموسيقى والألوان، لكنه هاجر مُكرهًا إلى بولندا عام 2006، إذ جاء الحصار الإسرائيلي ليُتوج المتاعب التي كان يواجهها على الصعيد الاجتماعي كموسيقي.
بدأت علاقة عيسى بالفن عام 1994، عندما التحق بدورة لتعليم عزف الجيتار عام 1994 في معهد الموسيقى العربي في مصر، ثم بعد عامين، بدأ تدريس الأطفال عزة الجيتار في غزة. بعد عام، أصبح مدرس عزف الجيتار في معهد أبو أنس النجار للموسيقى، ثم أنشأ فرقته الموسيقيّة التي قدّمت أوّل أربعة عروض فنيّة في مركز رشاد الشوّا بغزّة.
الفنان أسامة عيسى: في غزة يرون الفنانين فَسَقة وبلا أخلاق باستثناء قلة يرسلون أبناءهم لتعلمها
يقول لـ الترا فلسطين: "كنت أعاني طيلة الوقت من نظرة الناس السلبيّة للفنانين، فهم يرونهم فَسَقَةً وبلا أخلاق، إلّا أنّ صنفًا قليلاً كانوا يرون الموسيقى شيئًا مهمًا، ويرسلون أبناءهم لتعلُّمها". قرر عيسى إثر ذلك الهجرة إلى بولندا، وهناك التحق بشركة موسيقية صغيرة كعازف جيتار شرقي في شكل أسباني، وكان من أعماله تسجيل مقدمة أغنية "ليلة الحب" لـ أم كلثوم لفنانية بولندية.
اقرأ/ي أيضًا: في غزة.. صناعة الممثلات "زراعة في أرض بور"
وليست قصة ريم وعيسى استثناءً في قطاع غزة، حيث الحصار والفقر والبطالة إضافة إلى النظرة التي لم تتغير كثيرًا تجاه الفن منذ سنوات طويلة. منعم عدوان (48 عامًا) أيضًا سافر إلى فرنسا عام 2007، بعد أن دخل سن الأربعين، بحثًا عن مستقبل فني أفضل.
حصل عدوان على بكالوريوس في الموسيقى من ليبيا عام 1993، ثم عمل موسيقِيًا في التوجيه الوطني لدى السلطة الفلسطينيّة. وإلى جانب عمله، أنجز الموسيقى الخاصة بمسلسل "ليالي الصيّادين" الذي أُنتج عام 1996، كما أنجز موسيقى أفلام أنتجتها مؤسسات فرنسية، "فتافيت الخبز للحمام"، و"غزّة تحت الأرض".
يرى عدوان أن نظرة المجتمع السلبيّة تجاه الفن والموسيقى، "موروثة"، ويقول لـ الترا فلسطين: "أنا شخصيًا لمّا درست الموسيقى تلقيت معارضة من الأهل، وكان الناس يقولون لي: لو أنك وظّفت صوتك في أشياء أخرى غير الموسيقى، وكنت أشعر في كثير من الأحيان بالنبذ من المجتمع، وأعرف زملاء تعرضوا لنفس الشيء؛ هاجروا بعدها إلى أوروبا، كما أعرف مغنيًا من غزّة تعرض للضرب من متشددين بسبب عمله".
الفنان منعم عدوان: أعرف فنانًا تعرّض للضرب من "متشددين" في غزة
ويبين أنه سافر إلى فرنسا التزامًا بعقود عمل وقّعها، مضيفًا، "قديمًا كان لدينا مطار في غزّة، كنت أسافر على فرنسا وأرجع في يوم أو يومين، هلقيت (الآن) ما بتعرف وقتيش (متى) هتدخلها أو تطلع منها بسبب الحصار".
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | نانا تكسر ذكورية عزف الإيقاع في غزة
ويعمل عدوان حاليًا مؤلفًا موسيقيًا للأوبرا، وله فرقة كورال "ابن زيدون" للفن الشرقي في أوروبا، التي نسبها إلى الشاعر الأندلسي أبو الوليد ابن زيدون المخزومي، المُتوفى عام 1071 للميلاد.
[[{"fid":"71848","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":326,"width":580,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]
ورغم سوداوية الظروف منذ 12 سنة حتى الآن، وفق روايات الفنانين الثلاثة، إلا أن محمد الهباش (36 عامًا) وهو مدرّب لآلة العود في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، يرى أن تحسنًا يطرأ لكنه بطيء في نظرة المجتمع تجاه الموسيقى.
وقال الهباش لـ الترا فلسطين، إن الذي يدفع الفنّانين للسّفر، هو الإغلاق المستمر لمعبر رفح، "فالفنان بحاجة دائمة للسّفر، لأن السفر يخلق خيالاً للفنّان، ويساعده في التّعرف على الثّقافات الأخرى". لكنه اعترف في الوقت ذاته بأنه لا مصدر رزق للفنانين في غزة، ولا اهتمامًا كافيًا بهم، قبل أن يستدرك قائلاً، "أتوقع أن يكون ثمة مستقبل للفن في غزّة؛ إذا رُفع الحصار عنها".
وليس الحصار أكبر مشاكل الفنانين كما يعتقد الكثير منهم، فإحدى طالبات معهد إدوارد سعيد للموسيقى قررت فجأة التوقف عن تعلم العزف لأن مدرّستها أخبرتها أن الموسيقى حرام، وفق ما أفادنا به إسماعيل داوود، رئيس المعهد.
ورأى داوود أن الحصار، و"نظرة المجتمع السلبية" تجاه الفن، وغياب التمويل، يتشاركون تقييد الفنانين في غزة ثم تهجيرهم، مبينًا أن هذه الهجرات أنتجت عجزًا في الخبرات الموسيقية، "لأنّ من يحملون درجة البكالوريوس فما فوق في الموسيقى بقطاع غزّة حاليًا هم سبعة أشخاص فقط، ومثلهم يحملون شهادة الدبلوم في الموسيقى".
وأشار داوود إلى أنّ الفرق الموسيقيّة في غزّة لا تستطيع المشاركة في المسابقات والمهرجانات العربيّة والدوليّة، بسبب رفض الاحتلال منحهم تصاريح للسفر من الحواجز التي يسيطر عليها، في حين تواصل السلطات المصرية إغلاق معبر رفح من جانب آخر، إذ فتحته 29 يومًا فقط خلال عام 2017.
اقرأ/ي أيضًا:
هل تحمل المصالحة أخبارًا سارة للأدب والفن في غزة؟