استشهد محمد أبو ذراع أو "البوب" كما يعرف في مخيم بلاطة، لكن الخبر الحزين لم يكن مفاجئًا فالجميع كان يتوقع استشهاد "البوب" مشتبكًا مع الاحتلال في أيّ لحظة وتحديدًا منذ أن بات من أبرز المطلوبين في مخيم بلاطة منذ 10 أشهر.
استشهد محمد أبو ذراع مع جاره ورفيقه في الأسر سعود الطيطي يوم الثلاثاء خلال اشتباك مع نقطة عسكرية قرب مستوطنة ألون موريه
الشهادة كانت الصفحة الأخيرة في حياة الشاب الذي عاش طفولته يتيم الأب، ومراهقته جريحًا ثم معتقلًا لدى الاحتلال ولاحقًا معتقلًا لدى السلطة الفلسطينية، التي قطعت راتبه الذي يتقاضاه كأسير منذ نحو 7 أعوام، ويصاب بمرض السكري والضغط في سجونها، حتى استشهاده "مقبلًا غير مدبر"، كما تقول والدته لـ"الترا فلسطين".
وتقول والدة الشهيد أبو ذراع: "محمد عاش عمره يتيم وأسير ومظلوم، لكن حُب فلسطين والمقاومة بدمه"، وتتابع الأم التي تجمعت حولها نساء مخيم بلاطة لمواساتها "كان يقول لي: يمة أنا إلي ’بلاطة’ في القدس وبدي إياها".
أمّا خبر استشهاد "البوب" لم يكن مفاجئًا حتى لعائلته لكن ألمهم مضاعف، فكل ما تفكر فيه العائلة اليوم، الأم والشقيقتان والأشقاء الثلاثة هو كيفية استرجاع جثمان محمد (35 عامًا) من الاحتلال حتى يستطيعوا زيارة قبره، في مقبرة المخيم التي لا تبعد سوى عشرات الأمتار عن منزل العائلة.
وفي وصفها لحياة ابنها القصيرة، نظرًا لأعوام الاعتقال لدى الاحتلال والسلطة، تقول الأم: "محمد عاش عمره يتيم ومظلوم، عندما توفي والده كان عمره 6 أعوام، وعندما بلغ 15 عامًا أصيب بجراح خطرة في اقتحام المخيم عام 2003، في وقتها كان الخبر الأول داخل المخيم أنه استشهد لأن الرصاصة أصابت الوريد الرئيسي في الفخذ لكنه نجا بمعجزة إلهية".
وتتابع الأم: "بعد أقل من سنة، وقبل انتهاء العلاج من الإصابة، اعتقل الاحتلال محمد وعمره 16 عامًا وأمضى في معتقلات الاحتلال ثمانية أعوام".
تتذكر والدة الشهيد أبو ذراع تلك السنوات بحسرة، قائلةً: "حتى في سنوات أسره لم أكن أزوره بشكلٍ دائم، لأن معظم اعتقاله أمضاه في الزنازين حيث كانت إدارة سجون الاحتلال تعاقبه بالسجن الانفرادي".
وتتابع الوالدة في تلخيصها لحياة الشهيد محمد في حديثها لـ"الترا فلسطين"، بالقول: "محمد عمره ما شاف يوم حلو، عاش مظلوم واستشهد مظلوم، وهو فتحاوي أخلص لكتائب شهداء الأقصى، واختار طريقه للشهادة".
تستكمل الأم تذكرها لسنوات "البوب" حولها ومعها، ولكن مع كل عودة بالسنوات إلى الخلف، تجد الاعتقالات تحيط في سنوات حياة ابنها، وتتابع قائلةً: "عام 2016 اعتقلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية محمد وأمضى في سجن أريحا 16 شهرًا، على خلفية الأحداث التي شهدها المخيم [بلاطة] ضد السلطة في ذلك الحين، ودون أي تهمة واضحة أو محاكمة عادلة، كما تم قطع راتبه منذ ذلك الحين أي قبل نحو 7 أعوام ظلمًا، رغم أنه لا قانون في السلطة يبيح قطع راتب أسير محرر".
وفي بيت العزاء تتدخل قريبة لـ "البوب" لتقاطع الأم، قائلةً وهي تنتحب: "البوب أقسم على كتاب الله منذ سنوات أنه رغم ما مر به من تعذيب واعتقال ومرض داخل سجون السلطة، إلّا أنه لن يوجّه سلاحه يومًا إلّا للاحتلال، مهما كان حجم قهره، والمخيم يشهد على ذلك".
وخلال اعتقاله لدى السلطة الفلسطينية، أصيب محمد بأمراض السكري والضغط، وبعد خروجه من السجن، وخوفًا عليه من اعتقالات أخرى، قررت والدته أن ترسله إلى عائلتها في الأردن ليعيش هناك بعض الوقت حتى تنتهي أزمات المخيم ولا يعود هناك ذريعة لاعتقاله، وبالفعل أمضى في الأردن أربعة أعوام وعاد قبل عامين إلى المخيم. وحول هذه الجزئية، تقول: "كنت أريد أن يعيش حياةً عاديةً بعيدةً عن معتقلات الاحتلال والسلطة".
وبالتزامن مع عودة محمد من الأردن، برزت موجة نضالية في شمال الضفة الغربية لأول مرة منذ نهاية الانتفاضة الثانية، بهذا الشكل والاتساع، ومع عودة "البوب" من الأردن انخرط في المقاومة مجددًا، وعند اقتحام الاحتلال لمنزل عائلته في 21 حزيران/ يونيو الماضي وتدمير المنزل والاعتداء على والدته وعائلته بالضرب عاد لقائمة المطلوبين مرةً أخرى ومنذ ذلك الحين لا يعود للمنزل إلّا في أوقات متباعدة ولعدة ساعات.
في 22 شباط/ فبراير الماضي، شهدت البلدة القديمة في مدينة نابلس مجزرةً إسرائيلية هي الأكبر في الضفة الغربية منذ سنوات، أسفرت عن استشهاد 11 فلسطينيًا، وبينما كانت عائلة الشهيد محمد أبو ذراع تتابع الاقتحام الذي يحدث في المدينة، تمكنت من معرفة ابنها محمد، وذلك خلال اشتباكه مع القوة المقتحمة على مدخل البلدة القديمة في نابلس، وهو يدافع عن رفاقه في السلاح حسام إسليم ووليد الدخيل ومصعب عويص، وفي هذه المرة كتبت النجاة لأبو ذراع مرةً أخرى.
وعلى غير عادته في الاشتباكات والاقتحامات، لم تكتب النجاة لـ"البوب" يوم الثلاثاء الماضي، وذلك بعد خروجه وجاره في المخيم ورفيقه في الأسر سعود الطيطي [أسير سابق أمضى نحو 17 سنة في سجون الاحتلال] لتنفيذ عملية إطلاق نار تجاه نقطة عسكرية على مدخل مستوطنة "ألون موريه" المقامة على أراضي قرى شرق مدينة نابلس.
استشهد كلاهما في الاشتباك المسلح مع جنود الاحتلال على مدخل المستوطنة، ورحلا معا جيران ورفاق أسر ومقاومة، لكن هذه المرة لن يستعد المخيم لجنازة مهيبة، لتشييعهم إلى مقبرة المخيم فقد احتجز الاحتلال جثمانهما، تاركًا المخيم والمحبين والرفاق في انتظارهما من أجل جولة أخيرة في المخيم لا أحد يصدق أنها لن تكون.
على مدخل بيت أبو ذراع المتواضع كانت صور الشهيد جميل العموري من مخيم جنين أو كما يوصف بـ "مجدد الاشتباك" تبتسم للقادمين والمغادرين من بيت العزاء فيما ينتظر الشبان في مخيم بلاطة توقّف المطر لوضع صور "البوب" و"الطيطي" على جدران المخيم المليئة بصور شهداء السلاح والاشتباك والدرب المشترك من كل أنحاء الضفة الغربية.