27-سبتمبر-2019

يتفقّد موظّف العلاقات العامة والإعلام في مكتب أحد السادة المسؤولين، من وزراء وأعضاء لجنة تنفيذية وأمناء عامين للفصائل، الصحف والمواقع الإخبارية، كل صباح.

يكتب على قصاصة ورق صغيرة: "نتنياهو يهدد بالسيطرة على الأغوار".

يغلق الصحيفة ويفتح ملف وورد، ويضع المؤشر في رأس الصفحة، ثم ينتظر "معاليه"، أو "سعادته" أو "الباشا".

يمرر الموظف قصاصة الورق للمسؤول، الذي يأتي متأخرًا، كالعادة.

"لا بد –معاليك- من أن نصدر بيانًا حول تصريح نتنياهو الأخير"، يقول الموظف المهذب.

يأتي الساعي بفنجان القهوة الصباحي. يضعه على المكتب وينصرف.

ملف الوورد عليه ترويسة علوية باسم معاليه ووصفه، وأخرى سفليّة فيها أرقام الهواتف والإيميل وصفحة الفيسبوك وفقط. لا أحد عندنا يهتم بتويتر.

يرتشف من فنجان القهوة ويقول لنفسه: "في المرّة الماضية، وصفتُ نقل السفارة بأنه مسمار في نعش عملية السلام. هذه المرة، عليّ أن أجد صيغة أخرى، معيب أن أكرر نفسي. يجب أن يكون صوتي مختلفًا. سأتجنب المسمار والنعش هذه المرة. لكنني لا أستطيع دومًا تجنب عملية السلام. سأجرّب".

يضع الموظف إصبعه على "الكيبورد". وغالبًا، يطبع مدبّجو بيانات المسؤولين بإصبع واحدة فقط، وغالبًا بالوسطى.

لا يحتاج البيان إلى أكثر من الإصبع الوسطى، ولا الشعب أيضًا.

يُملي "معاليه" بهدوء: إعلان نتنياهو السيطرة على الأغوار جريمة حرب. 

يوسّط الموظف -الذي يعرف عمله- العنوان، ويكبّر حجم الخط قليلاً: "16 مناسب تمامًا"، يقول لنفسه. ثم يقول لمعاليه: "غدًا سينشر في الصحف مع صورة غاضبة لمعاليك. سأمرر لهم هذه الصورة. أترى؟. وعدد كلمات العنوان مناسب. ثلاثة أعمدة في أعلى الصفحة".

هكذا تبدأ الفقرة الأولى، وحجم خط النص 14 عادةً: 

"استنكر معالي سيادة سعادة نيافة غبطة.. إعلان رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو نيته ضم الأغواء بعد الانتخابات الإسرائيلية".

يعود معاليه قليلاً إلى الوراء، ويرتشف قليلاً من القهوة.

يكتب الموظف في أسطر متتالية: وندد، وأدان، وحذر، وشدد، وطالب، ودعا.

ويقول لنفسه: كلّ فعل هنا سأبدأ به فقرة من البيان شديد اللهجة.

ويستأنف الموظف الطباعة بالإصبع الوسطى، لكن بسرعة. لقد اعتاد استخدام هذه الإصبع بالطباعة، وبخاصة عندما يكتب باسم معاليه للشعب.

يكون معاليه قد بدأ استقبال المريدين وأصحاب الحاجات من خاصّته.

ينتهي صاحبنا من طباعة البيان. يخزّنه على سطح المكتب المزدحم بالبيانات، ويفعل ما اعتاد على فعله عند تسمية الملفات: "بيان من مكتب معاليه 28-9-2019".

يطبع البيان الجاهز، ويمرره لمعاليه بين استقبال ضيفيْن.

يقرأه معاليه بسرعة. ويشطب كلمة "البربري" التي تصف سلوك نتنياهو، ويقول في سرّه: "قريبًا ستنتهي مدة تصريح (الڤي آي بي)، ولا أريد مشاكل تحول دون تجديده. مهم أن أتحرك بحريّة، كي أواصل دوري الوطني".

ويوقع أسفل البيان: "على بركة الله".

يستخدم المسؤولون اسم الله كثيرًا في شؤونهم. يدركون أنهم لولا لطف الله وإمهاله لهم، ما دفّأت مؤخراتهم كراسيهم.

يفتح الموظف الذي يتقن عمله تمامًا الإيميل. رسالة جديدة. المرسل إليها: قائمة إعلام محلي1. يضع العنوان، ويرفق الملف ومعه الصورة. ثم بكبسة واحدة. تزعق إيميلات جماعة "إعلام محلي1".

يكرر الموظف الذي يعرف عمله تمامًا، الأمر مع القوائم البريدية العشر، بما فيها وسائل الإعلام الأجنبية والسفارات والقنصليات. ويرسل بيان معاليه الناري.

زيادة في التأكد، فإنه يتصل مع بعض وسائل الإعلام التي يحب معاليه أن تنشر بياناته فيها.

"ألو، وصلكم منا إيميل؟ طيب طيب، زبطونا، ههههه، شكرًا".

يمرر الموظف الخبر لكل مجموعات "الوتسآب"، بدءًا من "متابعات ميدانية"، وليس انتهاءً بـ"رابطة محبي صيد الخنافس".

بعد ساعة، يبدأ الموظف تفقد المواقع الإلكترونية، لضمان نشر بيان معاليه.

يجمع روابط المواقع التي نشرت البيان، ويحفظها، كي تكون جاهزة عند إدراجها في تقرير إنجازات معاليه.

ينشر البيان على صفحة معاليه الرسمية على الفيسبوك، التي لا يزورها أحد، ثم يدخل باسمه الشخصي، ويضع قلب حب للبوست، ويكتب في التعليق الأول: "كل الاحترام".

يسترخي الموظف النشيط بقية اليوم. لقد أنجز عملاً عظيمًا.

صباح اليوم التالي، يحمل كومة أوراق طبعها قبل وصول معاليه، من كل المنصات التي نشرت البيان، ويمررها لمعاليه فور وصوله.

يسند ظهره جيدًا إلى الكرسي الوثير، الذي علا ظهره واتسعت قاعدته كثيرًا، حتى بدا ضئيلاً رغم ضخامة جسده، ويتصفح الأوراق، ويبتسم برضا وحبور.

يلتفت إلى الموظف النشيط، الفرِح بإنجاز مهمته، ويسأله: "ها، شو عنّا اليوم؟".

يجيب صاحبنا: "في دولة، مش عارف إسمها، بدها تنقل سفارتها للقدس".

يقول معاليه: "شوف شو اسمها، واكتب بيان شجب. إمبارح استنكرت، واليوم بدي أشجب، وبدنا نشوف آخرتها معهم، خليهم يعملوا شو ما بدهم، وهينا قاعدين، إلا نهلكهم بيانات. وإسمع، تنساش تغيّر صورة امبارح. حط وحدة مبيّن فيها معصّب أكثر. لازم يعرفوا إني مش راح أسكت".


اقرأ/ي أيضًا: 

إعلام وزارة وليس إعلام وزير

فصائل البريد الإلكتروني

لماذا لا يشيخ الساسة في فلسطين؟