25-أبريل-2022
وجبة الإفطار في رمضان - باحات الأقصى

Mostafa Alkharouf/ Getty Images

لشهر رمضان حُضورُهُ وأهميتُه في عادات الفلسطينيين وتقاليدهم، فهو شهر عبادة وطاعة مُرتبطٌ بالأكل والطعام، ذلك أن جوهر فريضة الصيام الإمساك عن الأكل والشراب والامتناع عن الملذات طوال النهار لبلوغ التقوى، كما في الآية القرانية: "لعلكم تتقون". إلا أن الطعام في رمضان تعدى كونه غريزة وحاجة، يُعَبِّرُ عنها الجوع ويُشبعها امتلاء البطن، وأصبح شهوة تتطلب الاهتمام بالطعم والرائحة والنوع. 

حضور الطعام في رمضان يتعدى كونه حاجة للبقاء على قيد الحياة بيولوجيًا، ذلك أنه يتخذ عددًا لا نهائيًا من المعاني والأدوار في تيار تكوين المجتمع والثقافة وهوية الشعوب، وهو مطبخ متغلغل في تكويننا الثقافي والنفسي

إن حضور الطعام في رمضان يتعدى كونه حاجة للبقاء على قيد الحياة بيولوجيًا، ذلك أنه يتخذ عددًا لا نهائيًا من المعاني والأدوار في تيار تكوين المجتمع والثقافة وهوية الشعوب، وهو مطبخ متغلغل في تكويننا الثقافي والنفسي. الأمر الذي يُمكننا طرحه بعجاله في هذه المقالة.

رمضان أبو العيلة

يُمكننا النظر للأكل في رمضان على أنه وسيلة لتجديد العلاقات الاجتماعية، فالجالسون حول سفرة الطعام لا يكَفون عن الحديث وتبادل الأخبار والتفاعل مع همومهم وقضاياهم التي مروا بها في يومهم أو حياتهم. فيكون طعامهم كما حديثهم مُتعدد الألوان والأشكال والمذاقات، وكأن سُفراتهم انعكاس سَفراتهم ولذا قيل في قداسة العلاقة المبنية على التشارك في المأكل والمشرب "بينهم عيش وملح".

 Ali Jadallah/Getty Images
 Ali Jadallah/Getty Images

وقديمًا كان الاستعداد لتجهيز الأكل في رمضان يبدأ قبل دخول الشهر بأسابيع وأحيانًا أشهر، حيث تحرص العائلات على تنظيف القدور والطناجر وآنية الفخار، وتجهيز طحنة القمح "طحنة رمضان"، وكذا شراء ما يلزم من المُدن كالحلاوة والتمر والعجوة وقمر الدين. وتبدأ السيدات بتوفير بيض الدجاج وما يمكن توفيره من خيرات الأرض ومونة البيت، وبعض المُقتدرين كان عليه تقديم "ذبيحة رمضان". المُهم في كل ذلك أن العائلة كانت تشعر بدورها الجماعي في الاستعداد للصوم وتوفير ما يلزم له.

أما سِرُّ المائدة في رمضان فيقوم على اللمّة العائلية، فـ"البركة في اللمة"، ونسمع قولهم عن ذلك: "رمضان يا أبو العيلة". ولأجل ذلك كان يحرض المُغتربون والمقيمون خارج بلادهم على العودة لقضاء هذا الشهر مع العائلة.

سِرُّ المائدة في رمضان فيقوم على اللمّة العائلية، فـ"البركة في اللمة"، ونسمع قولهم عن ذلك: "رمضان يا أبو العيلة". ولأجل ذلك كان يحرض المُغتربون والمقيمون خارج بلادهم على العودة لقضاء هذا الشهر مع العائلة

وتعتبر وجبة الإفطار هي الوجبة الرئيسية وعليها يقوم عماد الأكل في رمضان، ولذا تُستدعى على مائدتها المذاقات بأشكالها وأنواعها، وذلك حسب قدرة العائلة وإمكانياتها. فيما تكون وجبة السحور أقل بذخًا وأقرب للاعتدال، لأنها تركز على الأكل الخفيف وما يوفر الماء للجسم ويقي الصائمين من العطش.

 Ali Jadallah/ Getty Images
 Ali Jadallah/ Getty Images

 والإفطار التقليدي في القرى مثلاً كان يقوم على إفطار الرجال في مضافة القرية أو ديوان الحمولة، فيأتي كل منهم بطبق أو صحن فيه ما تيسر طبخه أو توفر في سلة غذاء البيت، فيما تجتمع نساء العائلة الممتدة والأطفال في الحوش أو فناء البيت ويأكلون معًا.

عادات ومعتقدات مطبخية

لعلَّ من أكثر ما يميز أطباق رمضان هو التنوع في رمزية الأكل وفلسفته، ذلك أنه في كثير من تفاصيله مُعقد وغير مفهوم، وبعض العادات تدخل في جملة المعتقدات البدائية، مثل اختيار لون الطبق المُعد لليوم الأول (أبيض أو أخضر) إسقاطًا لرمزية ومعنى اللونين على هذا الشهر.

ومن الأشياء ذات الدلالة أن يُعلق رغيف خبز في صدر البيت في اليوم الأول من رمضان، لما للخبز من قداسة في الاعتقاد الشعبي فيعتقدون بأن البركة ستحل بالبيت طوال الشهر. وفي اليوم الأخير من رمضان يُسارعون لتفتيت الرغيف المُعلق وتوزيعه على أوعية المونة من قمح وحمص وفول وبقوليات، طلبًا لبقاء البركة فيها لما بعد رمضان. 

وفي رمضان قصة للعدد الفردي "الوتر" أيضًا، لا تقتصر على أكل حبات من التمر، فالأواني والصحون التي توضع على الطاولة في وجبتي الإفطار والسحور كان يراعى أن يكون مجموعها عددًا فرديًا (7،5،3..). وما يوضع بداخل الصحون من أطعمة يجب أن يراعى فيه كذلك الفردية ما أمكن، ككرات اللحم "الكبّة" التي يُشترط بها الفردية. وكذلك الحال مع طبخ طبق المفتول الذي كان يشترط طبخه ثلاث مرات في الشهر.

من جميل عادات الأكل في رمضان  قديمًا "تبادل الزبادي"، وهي عادة مشاركة الأطباق والمأكولات مع الجيران. ولذا ترى على المائدة عدة أصناف وأطباق، وهذا من جوهر التنوع في مائدة رمضان "إطعم تُطعم"

ومن جميل عادات الأكل في رمضان  قديمًا "تبادل الزبادي"، وهي عادة مشاركة الأطباق والمأكولات مع الجيران. ولذا ترى على المائدة عدة أصناف وأطباق، وهذا من جوهر التنوع في مائدة رمضان "إطعم تُطعم".

 AAREF WATAD/ Getty
 AAREF WATAD/ Getty 

وهذه الظاهرة عميقة الأثر في نسج العلاقات الاجتماعية وتمتين أواصر الصلة بين الناس وخلق احساس بالتساوي والتشارك بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية. ولذا كان من المُعيب في مجتمعنا أن ترد وعاءً أو إناءً لجارك وهو فارغ، "بروح الصحن ملان وبرجع ملان".

مطبخ متنوع ومتكامل

في الأمثال الشعبية كثيرًا ما ننتبه لوجود الأكل في رمضان ومن ذلك: "مش بِعَيط عَلى رمضان، بعيط عَلى أكلاته". ومثله قولهم: "ما بحب رمضان بحب طبخاته". ونوعية الطعام ومُستواه الاجتماعي أيضًا مُهمة في أطباق رمضان قديمًا كما حديثًا، ولذا قيل: "صام صام، وأفطر على بَصله" في تأكيد على عُلو شأن الإفطار الجيد.

 

أمثال شعبية عن صيام #الأطفال في #رمضان..

Posted by ‎Ultra Palestine - الترا فلسطين‎ on Wednesday, June 7, 2017

ويُمكننا القول إن هناك أربعة أصناف كانت تحضر بالضرورة على مائدة الإفطار الرمضاني: الماء والتمر، الخبز واللبن، إذ تُعتبر هذه الأصناف من مكون المائدة الأساسي في المطبخ الفلسطيني. وفي كثير من المقابلات الشفوية التي أجريتها في سياق إعداد هذا المقال، أشارت السيدات إلى أنهن كُن ينهضن لتجهيز خُبز الطابون قبل وقت السحور، حيث يجلسون على المائدة وأمامهم خبز الطابون الساخن.

في كثير من المقابلات الشفوية التي أجريتها في سياق إعداد هذا المقال، أشارت السيدات إلى أنهن كُن ينهضن لتجهيز خُبز الطابون قبل وقت السحور، حيث يجلسون على المائدة وأمامهم خبز الطابون الساخن

كما أن موائد رمضان عامرة بالسوائل والعصائر كالخروب والتمر هندي، والعرقسوس، ولا تغيب الشوربات وأهمها: العدس والفريكة، ولعلهما أساسيان على المائدة، ولا تغيب بعض أنواع المخللات والخضار كالفجل والبصل ونحوه. وينفرد عصير قمر الدين الذي يُصنع من المشمش، بحضوره على مائدة السحور.

هذا كُله غير الطبق أو الأطباق الرئيسية، التي تقوم على اللحوم والدجاج غالبًا "فخير الإدام اللحم". ونادرًا ما يغيب الرّز، فـ"العز للرز" على رأي المثل الشعبي، وقد أصبح الرز من أساسيات الطبق الرمضاني حتى قالوا: "مثل صحن الرز قاعد بالنص". ويتجسد هذا الأمر بحضور المقلوبة كطبق أساسي في موائد رمضان، ومن المُسلم به أن المقلوبة هو طبق شعبي يقوم على فكرة اجتماع العائلة.

وعن ضرورة حضور الأطباق الأساسية الدّسمة في موائد إفطار رمضان، نجد الاعتقاد الشعبي يقول إن هناك ملاكًا يُعرف باسم عسّاس القدور، يطوف على رأس كل عشرة أيام ويتفقد القدور وما بداخلها داعيًا دوام ما في الطبق. ولذا يجب أن يُطبخ أكل دسم وفيه لحوم لدوام النعمة طيلة أيام رمضان.

وبحسب المتعارف عليه شعبيًا فإن هناك ترتيب على الصائم التقيّد به على المائدة، فأول ما يبدأ به السوائل، ثم المقبلات قبل الوجبة الرئيسية، وأن يأكل من وجبته الرئيسية اللحم أولًا، وأن يكون آخر ما يُقدم على المائدة الحلويات على اختلافها.

أمّا الشاي والقهوة العربية، فغالبًا ما يكون حضورهما بعد الإفطار، وشربهما مُرتبط بضرورة الراحة وأخذ نفس بعد الأكل لاسترداد "المزاج".

لا علاقة لحجم ونوع الطبق الأساسي بحضور أو غياب الحلوى، فهذا شيء وذاك شيء آخر، والمثل حاضر لتبرير ذلك: "إنّ في البطن لَخلوَة لا يملؤها إلى الحلوى"

ومن ضرورات الصيام "الحلويات"، وأهمها حلوى القطايف، فما أن يدخل الشهر حتى تبدأ المحلات بالتنافس في إعدادها وبيعها. ولا تغيب الكنافة والفطيرة والبقلاوة والعوامة عن رمضان، إذ تشهد إقبالًا قد يُنافس القطايف أحيانًا. 

ولا علاقة لحجم ونوع الطبق الأساسي بحضور أو غياب الحلوى، فهذا شيء وذاك شيء آخر، والمثل حاضر لتبرير ذلك: "إنّ في البطن لَخلوَة لا يملؤها إلى الحلوى"، و"كل مُصران وإله طعام"، و"إنما المؤمنون حلويون". هذا بالإضافة إلى أن الحلويات غالبًا تقدم في لمّات العائلة بعد التراويح وأثناء السّمر ليلًا.

وخلاصة القول في مطبخ رمضان أنه مطبخ بسيط لكنّه غني وشهي ومتنوع، وترتبط جذوره بنظام زراعي يعود إلى مُبتدأ الحضارات الأولى في الشرق الأوسط، وهو مبني على ركيزتين: غلّات الأرض ونتاجها أولًا، وهو ملتحم مع التعدد العرقي والحضاري والإنساني المتتابع والمتواصل في المنطقة ثانيًا.