يبدأ المشهد بخروج الشاحنة محملةً بالنفاياتِ الكيماوية السامّة من المستوطنة، تدخل المدينة أو إحدى قراها بالتنسيق مع فلسطينيين يعرفون المنطقة جيّدًا، تفرِّغ ما حملته من مخلّفاتٍ صلبة وتعود أدراجها، ولا تسدل الستارة بضبط الشاحنة، أو نجاحها في العودة، فتبعات ما حدث بيئيًا وقانونيًا أبعد وأوسع بكثير.
يدور الحديث هُنا عن قلقيلية، نقطة الالتقاء بين المدن الفلسطينية في الضفة الغربية والداخل المحتل، المحاطة بـ13 مستوطنة، والتي تقدّر مساحة أراضيها المسروقة من قبل الاحتلال الإسرائيلي بـ60 ألف دونم، وقد أُقيمت على أراضيها أجزاء من جدار الفصل العنصري، وتم تتويج ذلك بتحويل مساحات واسعة ومتفرقة من الأراضي التي لم تُسرق إلى مكبات نفايات للمستوطنات.
مقاولون وتجار فلسطينيون يشاركون إسرائيليين تهريب نفايات كيماوية من المستوطنات ودفنها في أراضي قلقيلية مقابل مبالغ زهيدة
تراقب الضابطة الجمركية السيارات الخارجة من المستوطنات والداخلة إليها، فعلى عاتقها يقع القيام بأولى خطوات العملية وهي إحباط محاولات التهريب. مدير الضابطة الجمركية في قلقيلية المقدم أمجد براهمة، أخبرنا أن الضابطة الجمركية تضبط السيارات المخالفة والمهرِبة للنفايات، وتحرر محاضر ضبط في الواقعة، وتعد تقريرًا عنها، ثم تحيل القضية لسلطة جودة البيئة لإتمام الإجراءات القانونية.
اقرأ/ي أيضًا: مجاري المستوطنات تهلك الحرث والنسل في دورا
المتورطون في ارتكاب هذه الجرائم فلسطينيون وإسرائيليون أيضًا. يبين المقدم غالب الخطيب مدير الارتباط العسكري في قلقيلية، أن الفلسطيني الذي يُضبط خلال ارتكابه هذه المخالفة يُحال إلى القضاء، أما الإسرائيلي فيُسلّم إلى سلطات الاحتلال، وتُقدم بحقه شكوى، دون أن يُعلمنا بما تصل إليه هذه الشكاوى، وإن كان الاحتلال الإسرائيلي يتخذ أي إجراءات بحق الإسرائيليين.
ويشير الخطيب إلى أن المتورطين في هذه المخالفات من الجانب الفلسطيني يتقاضون مبالغ زهيدة، في حين أن المهرب الإسرائيلي الذي يلجأ لهذه الجريمة يهدف إلى التهرب من المبالغ المالية الكبيرة التي تطلبها الجهات المختصة الإسرائيلية لتجميع هذه النفايات في أماكن خاصة.
سلطة جودة البيئة تحدثت لنا عن عمليات تهريب كبيرة يُمكن وصفها بالظاهرة، رغم أن شاحنات التهريب التي تُضبط لا تتجاوز الواحدة كل شهرٍ أو شهرين، وهو ما أرجعه مدير سلطة البيئة في قلقيلية وطولكرم عصام القاسم إلى محدودية عدد الطواقم، وعملها ضمن ساعات محددة، إضافة إلى أن حدود قلقيلية "مفتوحة على الطرف الآخر"، حسب قوله.
ويبين القاسم، أنّ عمليات التهريب هذه بدأت عندما كان الجدار مقامًا على أراضي عزون عتمة، إذ استغل المستوطنون وجود الجدار لينقلوا نفاياتهم للمناطق خلفه، ثم امتدوا لباقي مناطق المحافظة مثل عزون، وكفرثلث، وجيوس، وكل مكان يمكنهم الوصول إليه، وإن كان بطريقة عشوائية على جوانب الطرقات.
يؤكد القاسم، أن هذه العمليات لا تتم إلّا بمساعدة فلسطينيين، مبينًا، أن أغلب المتواطئين فيها "أشخاص من الطبقات العليا مثل التجار والمقاولين، فالدافع أبدًا ليس فقرًا أو محاولة كسب لقمة العيش"، وفق قوله.
وتُبين المحاضر والحالات التي اطّلعنا عليها، أنه لا يتم تفريغ شاحنة نفاياتٍ في أرضٍ إلا بعلم صاحبها، لكنّه شدد على أنّ سلطات الاحتلال تغض الطرف عن أفعال المستوطنين، معتبرًا ذلك إشارة إلى أن ما يجري "حرب ممنهجة ومدروسة على البيئة الفلسطينية".
اقرأ/ي أيضًا: منشطاتٌ جنسيةٌ قاتلةٌ تباع سرًا في الضفة
ويوضح القاسم، أن عمل سلطة جودة البيئة للحد من هذه الظاهرة ينقسم إلى جزئين: "جزء لمحاسبة الاحتلال، ويتم ذلك من خلال إبلاغ سكرتاريا اتفاقية بازل في جنيف، التابعة للأمم المتحدة، والتي تمنع أي دولة إقامة مكبات نفايات داخل حدود دولة أخرى، مضيفًا، أن ذلك بدأ منذ حصول فلسطين على صفة دولة غير عضو قبل سنوات.
ويشير إلى أن الشاحنات تدخل الضفة الغربية من خلال الحواجز المقامة بين مدن الداخل المحتل والضفة، ما يعني أن الإدارة المدنية" تعلم بكل ما يحدث، بل وتشجعه أيضًا، رغم أنها تُظهر رفضها للأمر عند تقديم الارتباط الفلسطيني شكاوى بهذا الشأن، وهو ما يُفسر عدم تقديم أي إسرائيلي يُقبض عليه خلال التهريب للمحاكمة في القضاء الإسرائيلي.
شاحنات النفايات الإسرائيلية تعبر الضفة الغربية من خلال الحواجز العسكرية، ما يعني أن عملية التهريب تجري بعلم سلطات الاحتلال
الجزء الثاني من عمل سلطة جودة البيئة، حسب القاسم، مفاده أن "المزارع الفلسطيني ليس حُرًا في التصرف بأرضه. فأرضه ليست منفصلة عن المياه الجوفية، وعن بيوت وأراضي جيرانه، وليست منفصلة عن المحاصيل التي ينتجها وتخرج إلى الأسواق الفلسطينية".
اقرأ/ي أيضًا: الضفة.. مقبرة نفايات إسرائيل السامة
ويبين القاسم، أن القضاء الفلسطيني بدأ مؤخرًا التعامل مع قضايا البيئة بشكل أكثر جدية مما كان عليه في السابق، وذلك بعد زيادة عمليات التهريب وظهور آثار سلبية لها، مشيرًا إلى توقيف المتورطين في تهريب نفايات من مصانع "جيشوري" لـ56 يومًا، بعد أن كانت العقوبة سابقًا تقتصر على إلزامهم بدفع غرامة تتراوح بين 20 – 50 دينارًا دون توقيف.
هذه العقوبة إضافة لكونها غير رادعة، فإنها أيضًا تخالف قانون البيئة الفلسطيني لعام 1999، الذي نص على:
أ. حظر استيراد النفايات الخطرة من الخارج.
ب. حظر مرور النفايات الخطرة عبر الأراضي الفلسطينية أو المياه الإقليمية أو المناطق الخالصة إلا بتصريح خاص من الوزارة.
ونص القانون على أن من يخالف المادة (أ) يُعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة، وأن من يخالف المادة (ب) يُعاقب بغرامة مالية لا تقل عن 3 آلاف دينار، ولا تزيد عن 20 ألف دينار أو ما يعادلها بالعملة المتداولة، أو بالحبس مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد عن 15 سنة.
اقرأ/ي أيضًا: تجوّل في أرضك تمتلكها..
المحاضر في كلية القانون بجامعة النجاح نادر بني فضل، يعلق على ما سبق قائلًا، إن هناك ترهلًا في الضبط القضائي في قضايا تهريب النفايات، ما أدى لتفشي هذه الظاهرة.
ويؤيد بني فضل التشديد أكثر في هذه العقوبات، بإدراجها ضمن جرائم أمن الدولة، ما يُلزم الجهات المختصة بالتحرك وتقديم المتورطين للعدالة، وتطبيق أحكام "الجواسيس" عليهم.
ودعا بني فضل لإنشاء شرطة خاصة بالبيئة، لتجاوز مشكلة محدودية طواقم سلطة جودة البيئة، مضيفًا، أنه في ظل غياب المجلس التشريعني، يمكن إصدار قرار بقانون بذلك تطبقه المحاكم، ويوقع أقصى العقوبات على مرتكبي جرائم التهريب.
ويشير مدير التوعية البيئية في قلقيلية أيمن شواهنة إلى أن دراسات أظهرت وجود رصاص في تربة قلقيلية، ولكن بنسب ليست عالية، إلا أن ذلك يطرح تساؤلًا عن مصدر هذه الكميات، واحتمالية زيادتها وصولًا إلى تشكيلها تهديدًا حقيقيًا للمياه الجوفية والغطاء النباتي، وبالتالي صحة الإنسان.
اقرأ/ي أيضًا:
نفايات ديمونا.. قاتل صامت في الخليل