14-يونيو-2019

غسان زقطان وأمجد ناصر في بيروت 1980

نريد أن نصبح مثلهما، أن نكون وسيمين، مبدعين، ومشهورين مثلهما، نريد أن نصبح مثلهما مقاتلين، متمسّكين بالفكرة الكبرى ومنطلقين إلى المنفى حيث القصائد الجديدة، والكهولة الوسيمة.

قلت لصديقي: اختر أحدًا منهما لتكونه..

سارع في الإجابة: أريد أن أصبح غسان؛ فهو أقرب إلى صمودي في مقاومة دمعاتي، وشبيهي في القدرة الفذّة على تجاهل الأعداء. قلت لصديقي: إذًا أنا أمجد وأنت غسان.

  فتنتنا صداقة غسان وأمجد، الصداقة السحرية الممزوجة بالحروب والوسامة والمنافي والشعر والنساء  

تعرّفت على صديقي في أوائل التسعينيات؛ كان قاصّـًا موهوبًا، وفلّاحًا نقيًا لم تخطفه المدن الكبيرة بعد، كان قادمًا من الجنوب حيث قريته التي من صخرٍ وكهوف، وكنتُ لاجئًا إلى مخيم الجلزون من قريتي الساحلية قاصًا أكتب بلهفه عن الحب والشهداء. كانت اوسلو تقترب وكان غسان زقطان وأمجد ناصر شاعرينا المفضلين، كُنّا نقرأهما بانبهارٍ طفوليّ، وكنّا نعرف أنهما حملا السلاح إلى جانب القلم في بيروت دفاعًا عن الحلم وكان هذا يزيدهما سحرًا في مخيّلاتنا، قيل لنا إن غسان وأمجد سيعودان إلى فلسطين مع آلاف الشعراء والمثقفين العائدين بقرار من اتفاقية اوسلو، كانت فرحتنا لا تصدّق. أخيرًا سوف نلتقي بمعبودينا الوسيمين.

أريد أن أصبح غسان، قلت لصديقي الذي صرخ في وجهي قائلًا: لكنّك اخترت أمجد من قبل لتكونه، صرخت في صرخته غيّرت رأيي وهذا كلامٌ نهائيّ، استسلم صديقي لرغبتي الجديدة وقال: إذًا أنا أمجد.

فتنتنا صداقة غسان وأمجد، الصداقة السحرية الممزوجة بالحروب والوسامة والمنافي والشعر والنساء. 

كان لدينا النساء والشعر والصداقة السحرية، ولكن نقصتنا الحروب المجنونة والوسامة والمنافي، بدأنا؛ صديقي الجنوبي وأنا، الكتابة أول التسعينيات. أحببنا أدونيس وتعلّقنا بمحمود درويش وغفت قلوبنا على أغلفة كتب سعد يوسف والجواهري وغسان كنفاني ومحمد شكري وجبرا إبراهيم جبرا وايميل حبيبي، لكننا وقعنا صريعيّ "سُر من رآك" و"بطولة الأشياء". الأول لـ أمجد ناصر والثاني لـ غسان زقطان، عاد غسان من المنفى دون أمجد، كان يشبه كتابته تمامًا؛ الأنيق المتقشّف الملفت بقوة، الذكي والمغني، سألناه: أين أمجد؟ أجاب أنه يعود إلى هناك باستمرار، إلى فلسطين الكبيرة/ الحلم، لم يكفنا غسان وحده، كان جميلًا جدًا، لكن ثمة فراغًا في الصورة، ضروريًا ومحاربًا وحزينًا وجميلًا اسمه أمجد ناصر.

  نريد أن نصبح مثلهما مقاتلين، متمسّكين بالفكرة الكبرى ومنطلقين إلى المنفى حيث القصائد الجديدة، والكهولة الوسيمة  

أريد أن أصبح غسان وأمجد معًا، ردّ صديقي الجنوبي: أنا أيضًا أريد أن أصبح غسان وأمجد. كنّا في بداياتنا الأدبية نكتب السرد القصصي، ونغار من بعضنا البعض على ثرواتنا العاطفية وبلا حروبٍ ضرورية للنص والروح كنّا، واصلنا الكتابة على نصل مرحلة سياسية جديدة، عنوانها اوسلو التي صرخت في وجوهنا: انتهى الحلم يا أصدقاء. اكتبوا عن اللحظة، كتبنا القصص القصيرة بلغةٍ غريبة، طردنا من نصوصنا غبار المعارك التي لم نخضها، واستضفنا نساء قويات وسمحنا لهن بأن يصرخن ويكسرن ويعترضن ويصنعن زمنًا جديدًا.

زرنا غسان زقطان في مكتبه في وزارة الثقافة، كان دافئًا وقريبًا، تحدّثنا عن الشعر والشهداء، وسألناه مرة أخرى: أين أمجد يا غسان؟ أجاب مبتسمًا: قلت لكم إنه هناك، في قلب فلسطين التاريخية. 

  تفوّق أمجد علينا جميعًا. بقي في فلسطين التاريخية ولم يعد إلى فلسطين الواقعية  

واصلنا الإعجاب بغسان ولم نتوقف عن انتظار أمجد، أصدرنا أول الكتب ونشرنا نصوصنا في صحفٍ عربية منها "القدس العربي" التي يحرر صفحتها الثقافية شاعرٌ ومقاتلٌ يعيش في فلسطين التاريخية، وهكذا رأينا أمجد عبر رسائله إلينا، ملاحظاته المهمّة على نصوصنا، وصوته البدوي البهيّ.

قلنا لغسان مرّة: قل لنا كلامًا كثيرًا عن أمجد. قال: كان صديقي.

تفوّق أمجد علينا جميعًا. بقي في فلسطين التاريخية ولم يعد إلى فلسطين الواقعية، فلسطين التي يوقفون فيها الناس على الحواجز تحت الشمس، ويدققون في ابتساماتهم، ويأمرونهم بخلع الملابس.

لم نصبح غسان وأمجد، صرنا أنفسنا وصار لنصوصنا كبرياءها وحقّها في الانفراد بذاتها، لكننا ما زلنا نحبُّ صداقة أمجد وغسان، ونحلم في سرنا أن نكونهما دون أن نجاهر بذلك.

"لكننا عكسهما دون منفى ودون حروب، ونفتقد للوسامة"، سمعت صديقي يهمس لنفسه، ردًا على نفسه وهي ترغب في أن تكون أمجد وغسان مثل نفسي تمامًا.


اقرأ/ي أيضًا:

ملعقة في حقيبة مدرسية

حكومةٌ ضد حكومة

قيادة بالريموت كونترول