12-يوليو-2017

صورة تعبيريّة/ getty

لنبدأ بملاحظة أولى مفادها أنّ ما جرى مع الصحفي جهاد بركات، مراسل قناة "فلسطين اليوم" مؤخرًا لا يمكن تفسيره بمنطق، فالمنطق يقول إنّه حتى لو اشتبه حُرّاس موكب رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمدلله بالصحفي المصوِّر فإن التعاطي مع الأمر كان يستوجب إيقافه وسؤاله، وفي لحظة تيقّنهم من كونه صحفيًا فلسطينيًا ينتهي الأمر تمامًا.

وبالتالي كيف نفسّر ونحلل سلوك رجال الأمن، ومنظومة السلطة التنفيذية من جهاز أمن وقائي إلى النيابة العامة؟ الاستنتاج هُنا أننا أصبحنا إزاء سلوكيات للنظام السياسي الفلسطيني تضعف فيها إمكانية تفسيرنا لها وفق المنطق والعقل، وبالتالي هذا يفسر جزئيًا شدة اندهاشنا/ استغرابنا مثلًا من طريقة تعاطي الأمن مع صحفي، أو من كلام الناطق الرسمي الفلسطيني الذي يحفر في الخيال، وهذا جزئيًا أيضًا يمنحنا فهمًا لأسباب الغضب والاحتجاج الكبيرين من طريقة التعامل مع الصحفي بركات.

اعتقال الصحفيين، حجب المواقع، وقانون الجرائم الإلكترونيّة.. لا يمكن التعامل معها على أنّها حدث مفزع وانتهى

وسيبدو من متابعة سير الاعتقال وبحسب شهادة الصحفي نفسه أننا نقف في مكانين مختلفين، (نحن صحفيون وحقوقيون ومهتمون ومؤمنون بالحريات) والنظام السياسي الفلسطيني وأدوات السلطة التنفيذية.

من هُنا لا يمكن التعامل على أنّ هذه القضية حدث مفزع وانتهى، فالمؤشرات تشي بصدامات واحتجاجات قادمة لا محالة، خذوا مثلًا قانون الجرائم الإلكترونية، وطريقة تعاطي الحكومة مع أمر في غاية الأهمية بطريقة سريّة وكأنّه لا يخُصُّنا ولا يتعلق بسلوك كل واحد فينا بشكل لحظي تقريبًا.

المشكلة هُنا أنّ سلوك السلطة الفلسطينية بشكل عام يخالف كل ما تعلنه بنفسها عن نفسها، ويتناقض مع كل ما نظنُّ أنّها قطعته على نفسها من تعهدات والتزامات، فالقانون الأخير الخاص بالجرائم الإلكترونية مثلًا يتناقض مع الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات وحتى القوانين الفلسطينية على علاتها. الكارثة أننا نجد من يقف خلف القانون يصرح مؤكدًا أنّه لا يتعارض مع هذه المعاهدات والاتفاقيات الدولية ويحترم الحريات!

وعملية استعادة لمجموعة من الأحداث والقرارات التي اتخذتها السلطة في رام الله خلال العام المنصرم تدلل على ذلك، فلا يمر شهرٌ من دون أزمة أو تثار قضية تكشف عمق الهوة بين موقفين، الأول: ما هو معلن من السلطة ذاتها وبلسان أهلها، وما هو مُطبّق على أرض الواقع من سلوك قمعيّ لا يعي أين نقف كفلسطينيين يفترض أننا نخوض صراعًا للتحرر، ولا يضع في اعتباره من نحن كمواطنين مقموعين ومهددين بحياتنا، فكيف سيكون الأمر مع ما نريده نحن كصفحيين أو حقوقيين عاملين، والأمر يتضاعف إذا ما علمنا ما أصبح يفرضه التحوّل بفعل التكنولوجيا والذي يعيد تعريف كل شيء حتى مفهوم الدولة ذاتها، وهذا الأمر نظريًا يؤكد على أننا مقبلون على معارك أشدّ وأكبر، لا تنفع معها الشعارات والتعهدات فارغة المحتوى.

 سلوك السلطة بشكل عامّ يخالف كل ما تعلنه بنفسها عن نفسها، ويتناقض مع كل ما نظنُّ أنّها قطعته على نفسها من تعهدات والتزامات 

في العام الماضي وبتاريخ (الأول من آب من عام 2016) وقّع الرئيس محمود عباس على إعلان دعم حرية الإعلام في العالم العربي، وأصدر لحظتها قرارًا باعتبار الأول من آب، يومًا لحرية الرأي والتعبير في فلسطين. سيبدو الأمر اليوم على أنّه كوميديا سوداء، مفارقة متكاملة تؤسس للضحك حتى البكاء.

جاء في الخبر الرسمي يومها أنّ "مبادرة الرئيس، بصفته أوّل رئيس عربي يوقّع على وثيقة إعلان الدعم، ستمتد أبعادها وأصداؤها إلى الدول العربية والعالم، ويحصد ثمارها الصحفيون العرب الذين طالما ينادون بضمان حرية الرأي والتعبير". كل كمية البلاغة أو الإنشاء التي قيلت في الحدث ستقف عاجزة عن الصمود أمام أوّل حدث كاشف قام بنسفها سريعًا، الميدان لوحده كذّب الادّعاءات التي بدت على أنها تهويمات وتمويهات.

بدت البلاغة الحقيقية في الصورة المنشورة يومها، المرافقة لخبر التوقيع، الرئيس عباس يحمل الوثيقة بيده ويوقّع عليها واقفًا، بدا وكأنّ الأمر بسيط يوقّع عليه "ع الماشي" خلال انتقاله من غرفة لأخرى.

مرّ عام تقريبًا على هذا التوقيع، ولا يبدو أن وعيًا تكرّس أو التزامًا وقد قطع أصلًا، وسيمرُّ الأوّل من آب بعد أيّام من دون أن نرى إلّا الشعار الذي غالبًا ما يُرفع ليخفي الكثير من القمع والحدّ من الحريات، وما القوانين الجديدة التي دُبّرت بليل إلّا دليل.

السؤال الذي يطل علينا هو: هل السلطة "مجنونة" في أفعالها هذه، بمعنى أنّها تُلزم نفسها بمواثيق ولا تطبّقها في الواقع، وبالتالي يتعمّق فصامها وتناقُضها إن لم نقل كذبها وخداعها؟

الجواب على هذا السؤال متشعّب الاتجاهات، وهي وإن لم تكن "مجنونة" فهي ليست سلطة واحدة على أقلّ تقدير، وبالتالي هذا يفسّر التضارب والاختلافات في المواقف، أو أنّ التوقيع عليها لا يعبّر عن وعي حقيقي بأهميّتها.

وهذا ما لا يهُمنا في هذا السياق، لكن ما يهمُّنا هو ما يتعلق بدور "الجماعة الصحفية" إن جاز لنا التعبير في ذلك كلّه، فإن تعمّقنا أكثر فإن أوّل ما يحيلنا إليه هذا التناقض هو مفهوم السلطة الفلسطينية عن الإعلام والحريات، وطبيعة العلاقة التي تنشدها مع الصحفيين ومؤسساتهم الإعلامية، ولهذا الغرض يعقد المؤتمر السنوي عن الإعلام الأمنيّ في أريحا، وتعقد الندوات التي تبحث العلاقة بين الإعلام والأمن، وتدار مخيمات التعايش مع الأجهزة الأمنية، وتدار الندوات التي تحاول أن تناقش علاقة الأجهزة الأمنية مع الإعلام، وكذلك تؤسس المسابقات لتكرّس "الصحفي الصديق" لهذه المؤسسة أو تلك.

في كل ذلك تجد السلطة من يزيّن لها مفهومًا متخلفًا للإعلامي، ومفهومًا غير سوي يجمع الصحفي مع رجل الأمن، ومفهوم يفقد الصحافة جوهرها بين الصحفي والمؤسسة الرسمية، صحفيون كثر يتبرعون بذلك، ويكرسون فهمًا قديمًا للصحافة وأدوار الصحفيين.

فلهذا الفهم أبطال من صحفيين ومدراء مؤسسات صحفية، الذين يُضبعون أمام رجال الأمن ويتبنون الرؤية الخاصة بهم في العمل الصحفي، فيتم الاستسلام لفكرة العلاقة التكاملية بين الإعلامي ورجل الأمن! وهي علاقة لا يرى فيها الأخير دور الصحفي إلّا من خلالها، وإن خالف ذلك يصبح عدوًا للنظام، وخطرًا على السلم الأهلي...الخ من التهم المعلّبة.

  من المهم أن يكون موقف الصحفيين واضحًا من "الموت" المتربّص بمهنتهم   

أخيرًا، هل أخبرتكم عن وثيقة "سياسة إصلاح وتنمية الإعلام الفلسطيني للعام 2017" التي أطلقتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين، بالتعاون مع وزارة الإعلام والهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون الفلسطينية، والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، والاتحاد الدولي للصحفيين، لا داعي لذلك، "فكله طحن بلا طحين".

غير أنّ "الطحين" كلّه في التضامن مع الصحفيين جميعهم، وفي وضوح موقفهم من "الموت" المتربّص بمهنتهم، ولا يكون ذلك بالتعاطي الفردي مع الضحايا أو الأحداث، ووحده السياق يضع لنا الحقيقة كاملة، ويكشف العورات التي مهما حاول أصحابها التواري بربطات العنق أو التزيّن أمام عدسات الكاميرات في لحظة يطلقون فيها الوعود والتي مهما طال شهر عسلها ستكشف الأحداث زيفها المطلق.

 


اقرأ/ي أيضًا:

قانون الجرائم الإلكترونية: السلطة تشرعن قمع الحريات

أُعدّ في الظلام.. السلطة تخبئ قانونًا أسود للصحافيين

بطيخ فلسطين.. فاكهة وتسلية وأكثر