03-سبتمبر-2018

كان ذلك قبل عشر سنين من الآن؛ أمّا ذلك الذي كان قبل عشر سنين من الآن، فكان اللحظة المراهقة لولادة الهاجس الذي يَظنُّ فِيه الإنسان أنّ هنالك خطّة كونيّة ما في مكانٍ ما لتجعله شيئًا غير الذي هو عليه، شيئًا خالدًا، وارثًا لخلود ما. عدت إلى البيت بعد سهرة جافّة تافهة مع بعض الأصدقاء؛ وجلست إلى المكتب أو الكنبة، لا أذكر تحديدًا، وفتحت صفحة الأخبار الإلكترونيّة وكان في وسط الصّفحة صورة كبيرة سوداء ونعي بخطٍ عريضٍ: "رحيل محمود درويش.."، أو شيء من هذا، ولكنّي متأكّد أن النقطتين كانتا موجودتان هناك، في نهاية السّطر، حتّى لا تنهيانه، كأنّ محرّر الخبر يقول لنا: "لا يمكِنُ أن نكتب فقط: رحيل محمود درويش، دون أيّ نقاط سوداء تتلو هذه الكلمات الثلاث، فقط لا يمكن ذلك، لأنّ خبرًا كهذا، لا بدّ من تفسيره، ولأنّ التفسير بسيط جدًا – لقد مات! – فإذًا لا بدّ من جعله غامضًا بصورةٍ ما، أو سائلاً، لانهائيّ السّيولة، هكذا، بنقطتين في نهاية السّطر".

تلك طريقة محرّر الأخبار بجعلنا نتوهّم أنّ شيئًا ما غير عادي قد حدث، تلك طريقتنا جميعًا على كلّ حال، هاتان النقطتان اللعينتان. كأيّ مراهق آخر، كأيّ ربّما فلسطينيّ آخر، حزنت حزنًا مراهقًا، وظنّنت لأنّ يوم موته وافق يومًا مميّزًا في حياتي– بالطّبع سأظنّ ذلك – أنّني سأحملُ بعضًا من إرثه، أو ربّما سأرثهُ كلّه!

تعلّمت أدبيًا وثقافيًا، أن لا أرث أحدًا. وقد أخذ ذلك التعلُّم منّي وقتاً طويلاً؛ يجبُ ألّا ترث أحدًا، يجبُ أن تستوعبَ كلّ أحد في داخلك

لكنْ، مع مرور الوقت، تعلّمت أدبيًا وثقافيًا، أن لا أرث أحدًا. وقد أخذ ذلك التعلُّم منّي وقتاً طويلاً؛ يجبُ ألّا ترث أحدًا، يجبُ أن تستوعبَ كلّ أحد في داخلك، أن تبلتع وتبتلع، تلك القوافي المعلّقة، تلك الأسئلة المعلّقة، تلك الرُّوح التائهة في الشّعر، تلك النّبرة الجافّة الدّافئة بالكلام، ذلك المنطق اللغويّ، ذلك النّظامُ الثقافيّ ما فوق الشعريّ الذي يحيط بالكلام ويحتويه ويجعله لانهائياً بصورةٍ ما. ذلك درويش؛ الرّوح التائهة، القوافي المعلّقة، المنطقُ اللغويّ العصيُّ على التفسير، النظامُ الشعريّ الثقافيُّ العصيُّ على التّتبع والإحاطة.

اقرأ/ي أيضًا: من شاعر شاب إلى محمود درويش

لكنّ صراعًا بقي، كما أنا متأكّد أنّه بقي لدى الكثيرين، بين قراءة درويش والابتعاد عنه. في مرّة كتبت بضعة أسطر، بضعة أسطر لم تكن محاولة شعريّة، ولكنّها بضعة أسطر كتبتها وحسب. أرسلتها لصديقٍ، وقال لي أنّها جميلة، ولكنّه ذيّل رسالته ببضع كلمات: "يجب أن نتوقّف عن قراءة درويش". وتلك طريقة المثقّف الذي أحسّ أنّ درويش ضيّق الخناق عليه لغويًا وثقافيًا، في القول، أنّه لم يعد يُطيقُ قراءة درويش، لم يعد يُطيقُ رؤية هذه العبقريّة وهو لا يزال صريعًا لها غير قادر على النجاة منها بمنطق لغويّ خاصٍّ به.

لم أتوقّف عن قراءة درويش يومًا، ولا أذكُر يومًا، أو ربّما أسبوع حتى لا أبالغ، لم أخصّص ساعات بأكملها للاستماع لدرويش وقراءة قصائده. بعض القصائد، كمديح الظلّ العالي، كمأساة النرجس ملهاة الفضّة، والجداريّة، كنتُ أخصِّصُ لها ليالٍ بأكملها؛ أعيدُ تشغيلها مرارًا ومرارًا، وفقط، لا أفكّرُ بالكلمات، بل أترك نفسي تنقادُ إلى هذا المنطق اللغويّ الساحر، أتركها تغرق وتغرق بأكملها في هذا النّظام الفوضى الذي يُحيطُ كالأفعى وعي القارئ أو المستمع.

بالطّبع، ظللت سنواتٍ أكتب، في محاولاتي الأدبيّة، تحت ثقل كلمات درويش، وظننتني لن أتوقّف عن ذلك أبدًا؛ لأنّني عللت ذلك بالقول أنَّني أكتبُ داخل منطقه اللغوي وذلك ما أريد، داخل نظامه الشعريّ وذلك ما أريد. وحتى الآن، لا أذكُر تحديدًا، كيف ومتى توقّفت عن ذلك، ولماذا. ولكنّي أعرفُ أنّي انزلقتُ من منطقه اللغويّ في الكتابة، إلى منطق آخر، ربّما هنالك وبالتأكيد هنالك بقايا درويشيّة في كتابتي الأدبيّة، إلَّا أنّها لا تلحظ كما كنت ألحظُ تشبُّثي الواعي بمنطقه اللغويّ هذا. ذلك الانزلاق لم يحدث بفعل صراعٍ خضتهُ مع درويش، كحال العديدين الذي راحوا في صراعهم ذاك حدّ الانقلاب في الموقف من درويش نفسه شعرًا وشخصًا؛ بل كان انزلاقًا سلسًا، غير مقصود، بل وربّما غير مرغوبٍ أيضًا.

كدت أحيانًا حدّ الذهاب إلى القول، أنّ مرحلة البلوغ عند كلّ كاتبٍ فلسطينيّ، وإلى حدٍ ما عربيّ، والشعراء على وجه الخصوص؛ هي مرحلة التخلُّص من سطوة درويش اللغويّة عليهم. البعض يخرج من هذه المرحلة بعداء واضح لدرويش، وآخرون ينزلقون بسلاسة لا يلاحظونها هم أنفسهم، ويتركون درويش يُصبحُ جزءًا من نظامهم الخاصّ، مع الاحتفاظ بمكانته الخاصّة كـ"معلِّم أبديّ". وبالطّبع، هنالك من لم يتمكّن أبدًا من الخروج من عنق زجاجة درويش الشعريّة؛ ولا يزالُ قابعًا في الزّجاجة يحاول إعادة كتابة قصائد درويش الأولى، علّه من هناك يجدُ منفذًا إلى سماءٍ شعريّة أخرى أوسع من سماء درويش الأولى.

شاعر الأسئلة المعلّقة

في النّهاية، صار درويش إلى إدمانٍ لا مفرّ منه، لا بدّ منه، لا خلاص منه. صار جزءًا من نظامي الثقافيّ، راسخًا هناك في الوعي وفي اللاوعي؛ صلةُ الوصل بين الحاضر والماضي، الفارقُ الرّخو بين الوهم والحقيقة، مؤرِّخ البدايات والنّهايات، زائرُ أبو الطيّب المتنبّي ورائي أبو العلاء المعرّي، والمتنزّه برفقة طرفة ابن العبد، شاعر الأسئلة المعلّقة، شاعر كنعان وأنات وأطوارها، وشاعر رحلة العودة الذي ينسلُّ من العدمِ إلى الوجود كلَّما شاء. شاعرُ الجدارية؛ أن تولد، ثمّ تكون، ثمّ تُسمّى، ثمّ تَصير، ثمّ تموت، ثمّ تكون خالدًا في موتك. شاعر التّفاصيل، تفاصيلُ زهر اللوز، تفاصيلُ الحكاية المغنّاة في مأساة النرجس وملهاة الفضة، وشاعرُ الحنين لريتا وحيفا، وشاعر الهزل الوجوديّ والعبث الإنسانيّ، شاعر الذاكرة والنّسيان.

صار درويش إلى إدمانٍ لا مفرّ منه، لا بدّ منه، لا خلاص منه. صار جزءًا من نظامي الثقافيّ، راسخًا هناك في الوعي وفي اللاوعي

هو هذا كلُّه ولا شيء منه؛ كقبض الرّيح محاولة القبض عليه في صورة ما. فكلّما حاولت القبض عليه في مكان ما، كان في مكان آخر. لذلك توقّفت عن محاولات القبض هذه؛ في مرحلة ما قرّرت قراءة كلّ ما كتب درويش، واشتريت كلّ كتبه التي لم أملكها بعد، ولكن ولمّا خصّصت وقتًا كافيًا لها وكدت أشرع بالقراءة انتابني شعور بالحزن وبالغباء في آن.

لماذا عليّ أن أقرأ كلّ ما كتب هذا الإنسان، دفعة واحدة، أو حتى خلال عام؟ لا يجبُ عليّ فعل ذلك، قلت لنفسي. آنذاك أدركت أنّي أودُّ لو أقرأ قصيدة جديدة له كلّ أسبوع، أن أبقى اكتشفه إلى لحظة الموت؛ وفي لحظة الموت، أقرأ قصيدة أخيرة، قد تكون فعلاً الأخيرة له التي لم أقرأها بعد، وفي تلك اللحظة أكون قد انتهيت منه وانتهى منّي.

ذلك معنى أن يصير شاعر ما جزءًا من نظام الإنسان الثقافيّ؛ يعني أن يتوقّف هذا الإنسان عن محاولة مطاردة هذا الشاعر، أن يتوقّف عن الكتابة عنه في ذكرى موته وذكرى ميلاده، أن يتوقّف عن محاولة تسوّل وجوده من خلاله، أن يتوقّف عن الظنّ أنّه يرثه أو يُصارعه مكانته، أن يترك الشّاعر بسلام.. في داخله.


اقرأ/ي أيضًا: 

حسين البرغوثي.. العابر الهائل في الضوء الأزرق

في مديح اليأس: إنساني مفرط في إنسانيته

في الأدب الجيد والأدب المولود ميتًا