16-سبتمبر-2017

المجزرة تبدأ في الساعة السادسة: الدّم المستباح

في الرابع عشر من أيلول/سبتمبر لعام 1982، اغتيل بشير الجميّل، الرئيس اللبناني المنتخب وزعيم ميليشا الكتائب اللبنانية. الزعيم الذي يصفه ضابطٌ إسرائيلي: "كان بالنسبة لهم زعيمًا حقيقيًا، بل إلهًا حقيقيًا، ونحن أتينا إلى لبنان، وجعلناه لهم رئيسًا". وبعد يومين من الحادث، وفي الساعة السادسة مساءً من 16 أيلول/سبتمبر، كان مقاتلو الكتائب يدخلون مخيّم صبرا وشاتيلا، وهم، كما وصفهم رافائيل إيتان، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك: "لا شيء في عيونهم سوى رغبة جامحة للانتقام".

يعلق الصحفي الإيرلندي روبرت فيسك، على إنكار آرئيل شارون معرفته المسبقة بما سيحدث في المخيم عند دخول القوات اللبنانية إليه تحت قيادة إيلي حبيقة ومارون مشعلاني وميشيل زوينة، قائلاً: "طيّب، لنفترض أن ذلك صحيحًا، إذا كنت أنا، روبرت فيسك، أسكن على بعد آلاف الأميال في إيرلندا، أحسست بذلك وسافرت لمدة يومين ولم أنم لأنني عرفت أن مجزرة ستحدث، كيف لشارون ألا يدرك ذلك؟".

الجميع كانوا يعرفون أن مجزرة صبرا وشاتيلا ستقع، الإسرائيليون والفلسطينيون والسوريون واللبنانيون، بل والعالم كله كان يعرف أن مجزرة لا بد أن تقع

الجميع كانوا يعرفون أن مجزرة ستقع، الإسرائيليون والفلسطينيون والسوريون واللبنانيون، بل والعالم كله كان يعرف أن مجزرة لا بد أن تقع. ومنذ الدقائق الأولى لاغتيال الجميّل، كانت الدبابات الإسرائيلية تشق طريقها لاحتلال بيروت الغربية بحجة البحث عن فدائيين فلسطينيين تركهم ياسر عرفات في المخيمات. وبعد يومين، كانت القوات الإسرائيلية تحاصر صبرا وشاتيلا، وباتفاق مع قيادة القوات اللبنانية، دخلت القوات اللبنانية إلى المخيم تحت ذريعة تمشيطه من المقاتلين الفلسطينيين.

اقرأ/ي أيضًا: انفوجرافيك: صبرا وشاتيلا.. المسؤولون عن المجزرة

استمرّت المجزرة ما يقارب 36 ساعة، من مساء الخميس، وحتى صباح السبت. كان شارون ورافائيل إيتان، يراقبان المشهد من أعلى بناية لا تبعد عن المخيم سوى 150 مترًا، وقد انكشف المخيّم برعب المجزرة لهم. وبعد يوم من بدء المجزرة، كان إيلي حبيقة حاضرًا أمام شارون، وتزّعُم الرواية، أن شارون عاتب حبيقة على ما يفعله في المخيم وعدم فعله لما أمره به، وهو إخراج الفدائيين الفلسطينيين من المخيّم.

وتحجج حبيقة حينها، بأنه غير قادر على الرؤية في الليل، وعندها أمر شارون بإضاءة المخيّم للقوات اللبنانية لاستكمال المجزرة. هذه الرواية، عن عتاب شارون، يدحضها اختفاء 1100 فلسطيني، كانوا قد نُقلوا من المخيم إلى ملعب المدينة الرياضية بحجة التحقيق، وعندما انتهت المجزرة داخل المخيّم، تم ترحيلهم في شاحنات تحت حراسة الجيش الإسرائيلي، وتوجّهت بهم إلى أماكن قتلهم على يد القوات اللبنانية في أماكن عدة من لبنان.

أسفرت المجزرة عن استشهاد ما لا يقل عن ثلاثة آلاف فلسطيني. مارست القوات اللبنانية أعتى أنواع التنكيل بالفلسطينيين، اغتصبت، قتلت، ذبحت، رجالاً، شيوخًا، نساءً، وحتى رضّع. ولم ينتبه العالم إلى المجزرة إلا حينما انتهت.

سؤال العدالة للمهزومين

لم تكن صبرا وشاتيلا المجزرة الوحيدة في الحرب الأهليّة اللبنانية، كما لم تكن مجزرة الإسرائيليين الوحيدة. لقد حاولت القوات الإسرائيلية أن تدخل بيروت الغربية عند اجتياحها لبيروت في المرة الأولى، وقد صمدت المقاومة الفلسطينية اللبنانية المؤلفة من قوات منظمة التحرير والحزب الاشتراكي والشيوعي واليسار اللبناني عمومًا لأكثر من70 يومًا في وجه المدرّعات الإسرائيلية. انتهى الحصار آنذاك، باتفاق يقضي بخروج مقاتلي منظمة التحرير من بيروت، وتعهدٍ خطي من الرئيس الأمريكي بحماية الفلسطينيين في المخيمات.

كان ذلك، خطأ ياسر عرفات الفادح والأكثر خطورة في تاريخ الفلسطينيين في لبنان. لكن لبنان الحرب الأهلية، كانت عبارة عن مجموعة من الأخطاء التي تراكمت فوق بعضها البعض، لكل أطرافها، وخاصة لطرف الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وإلى حدٍ ما، فقد كانت الساحة اللبنانية تضيقُ بالفلسطينيين ذرعًا، إسرائيليًا من الجنوب، وسوريًا ويمينيًا من الشرق.

كان هناك إيلي حبيقة في صبرا وشاتيلا، وكان معه شارون ورافائيل إيتان وأمير دروري، وكان هناك جيش لبنان الجنوبي. ولم يكد يتنفّس الفلسطينيون الصعداء بعد المجزرة، حتّى بدأت مجازر أخرى تحصد أرواحهم في لبنان. ففي عام 1984، بدأت حرب المخيّمات التي شنّتها حركة أمل على الفلسطينيين في لبنان، مدعومة من الجيش السوري واللواء السادس من الجيش اللبناني. كانت الحرب العنوان الأضخم لصراع ياسر عرفات – حافظ الأسد، وتعبيرًا عن عن رغبة الأسد بالسيطرة على المنظمة وقرارها ورغبة بالتخلّص من عرفات نهائيًا. استمرّت الحرب عامين ونصف، وقد خلّفت وراءها ألف صبرا وشاتيلا أخرى، وأعادت ذكرى مجزرة تلّ الزعتر مرة أخرى إلى عقول الفلسطينيين.

لم يكد يتنفّس الفلسطينيون الصعداء بعد صبرا وشاتيلا، حتّى بدأت مجازر أخرى تحصد أرواحهم في لبنان، فقد بدأت حرب المخيمات التي شنتها حركة أمل مدعومة من الجيش السوري

كان إيلي حبيقة والقوات اللبنانية في ذلك الوقت على وشك خوض معركة برعاية سوريّة ضد سمير جعجع في بيروت، ومن ثم ضد ميشيل عون أيضًا برعاية سوريّة. كانت هذه المعارك كلّها، عنوان إرادة حافظ الأسد بإنهاء الأمور في لبنان وحسم المعركة لصالح سوريا في لبنان التي اعتبرها حديقته الخلفية، بل محافظة من محافظاتها.

اقرأ/ي أيضًا: المجازر ككوارث طبيعية

وعندما انتهت الحرب ووضعت أوزارها، عادت أسئلة العدالة للمهزومين مرة أخرى. ففي كل عام تعود ذكرى صبرا وشاتيلا إلى الذاكرة، وتعود أسئلة العدالة معها، كما تعود ذكرى حرب المخيمات، وذكرى تل الزعتر. لم تكن الهزيمة في لبنان، هزيمة جسدية وحسب، بل صارت إلى ما هو أسوأ من ذلك.

لقد مكّن الأسد في لبنان، الجميع من الجميع. لقد بقي الجميع، نجا الجميع. القتلة والضحايا على السواء. أما الفلسطينيين، فقد انهزموا هزيمة تامّة، فقد استطاعت إسرائيل أن تُجلّي المنظمة آنذاك، وأن تقضي على الوجود الفلسطيني في الجنوب، الذي ما إن ترك فراغًا حتى عبأته المقاومة اللبنانية الوطنية والإسلامية. وقد حوصر الفلسطينيون في المخيمات، مجرّدين من السلاح الضروري للدفاع عن أنفسهم. واستطاع الأسد بعد ذلك، أن يحفظ الأمور في لبنان لصالح سوريا.

هنا يبرز سؤال العدالة، عن صبرا وشاتيلا، تل الزعتر، حرب المخيمات. غريبًا، بل وأحيانًا، تافهًا. إذ لم يبق قاتلٌ من القتلة، إلا واستطاع أن يترقى في الرتب الوزارية والحكومية. تغيرت التحالفات، واليسار اللبناني الذي قاتل بجانب الفلسطيني والإسرائيلي والسوري على حدٍ سواء، في معركة الثورة الفلسطينية وإرادة الحركة الوطنية اللبنانية ضد إسرائيل والأنظمة الرجعيّة العربية والهيمنة السورية تحديدًا على لبنان، لم يمض زمن طويل عليه حتى رضخ للهيمنة السورية، ودار في فلكها كحال اليمين اللبناني. لم يحاكم أحد، وربما لن يحاكم أحد.

المحكمة، بطبيعتها، يجب أن تمتلك مقوّمات القدرة على النطق بالحكم وإحضار المتهم، يجب أن تمتلك قوة. وما حدث في لبنان، فيما يخصّ القوات اللبنانية والسورية، أن الفلسطينيين لم يملكوا هذه القوة من جهة، وأن بعضهم، كان سعيدًا وهو يرى الدم الفلسطيني يراق في المخيمات، بل وشارك في إراقته.

المجزرة مجازًا، المجزرة هوية

يبالغ الفلسطينيون في ادعاءاتهم النفسية حول المجزرة. ويبالغون لأنهم لا يملكون سوى أن يبالغوا في هذه الادعاءات. إذ أن المجزرة، صبرا وشاتيلا تحديدًا، لمشاركة الإسرائيلي فيها تحديدًا، قد تحوّلت بمرور الزمن إلى متحف للذاكرة الفلسطينية، ومكانًا قصيًا في الذاكرة في نفس الوقت. في هذا المكان، يتم بلورة وعي شعب بنفسه، على أنه ضحية أزلية، ويتم صهر هذا الوعي باستخدام التاريخ والحاضر.

لم نملك ما يكفي من القوّة آنذاك ولا الآن، لنحاكم القتلة، ولم نملك ما يكفي من الذات الموحّدة كي لا نرى بعضًا منّا يراقصون السفّاح الصهيوني والسفّاح السوري وينتشون بانتصاراتهم.

لم تكن صبرا وشاتيلا مجزرة مقدّسة، لم تكن إلّا مجزرة، ويجب فهمها على أنّها كذلك. يجب فهمها على أنّها امتداد لمعركة طويلة، وليست منفصلة، وليست أسطورة تدور في فلك نفسها بعيدًا عمّا هو حولها. يجب أن تُنتزع المجزرة من مكانة التقديس، من كونها تشكل لوحدها تاريخًا شاملاً للفلسطينيين، لكي تكون جزءًا من تاريخ عامٍ، فيه لم تحدث مجزرة واحدة وحسب، بل ألف مجزرة، وهو تاريخ معركة الشعوب في هذه المنطقة.

ليست المبالغة في الَتعلّق بالمجزرة ومكانتها في تشكيل الهوية الجماعية، هي المشكلة. بل المبالغة في التركيز عليها، بوصفها، جريمة صهيونية واضحة المعالم، على العكس من المجازر الأخرى التي اقترفت بحق الفلسطينيين في لبنان، مثل تل الزعتر وغيرها من المجازر، بوصفها مجازر ملتبسة المعالم.

شبح السفّاح يعود إلى دمشق

لماذا أعود إلى دمشق دائمًا عندما أتحدث عن فلسطين؟ لأنّ دمشق لم تختفِ يومًا من تاريخ الفلسطينيين. كانت حاضرة بجيشها وعتادها في بيروت، كما كانت حاضرة بجيشها وعتادها في تل الزعتر، كما كانت حاضرة بجيشها وعتادها في مخيم اليرموك، والغوطتين، ودرها، وداريا، ودير الزور، والمعظمية، وغيرها من البلدات والمدن السورية.

دمشق لم تختفِ يومًا من تاريخ الفلسطينيين. كانت حاضرة بجيشها وعتادها في بيروت، مثل تل الزعتر، مثل مخيم اليرموك، والغوطتين، ودرها، وداريا وغيرها

طارد السفّاح من قبل، الفلسطيني واللبناني، والآن، يطارد الفلسطيني والسوري. من قبل، في لبنان، كان يريد إخضاع الثورة الفلسطينية لإمرته، أن تكون أداةً يستخدمها متى يشاء ويلجمها متى يشاء، يساوم عليها في مفاوضات ويدّعي أمام شعبه أنّه نظام مقاوم وممانع. كما كان يريد من المخيمات الفلسطينية في سوريا أن تخضع لإمرته، وأن ترفض اللاجئين السوريين، أن تبقى خرساء، صمّاء، بل وأن تشارك معه في حربه على شعبه، كما شارك فعلاً بعض من الفلسطينيين في حربهم على الفلسطينيين أنفسهم في المخيمات وعلى السوريين.

اقرأ/ي أيضًا: "جزيرة فاضل".. هنا يرقد حلم العودة لفلسطين

ليست مجزرة صبرا وشاتيلا حدثًا استثنائيًا في تاريخ المنطقة، كما أن الاحتلال الصهيوني ليس حدثًا استثنائيًا ببنيته الفكرية والعنصرية في المنطقة، بل وفي العالم. لقد بدأت المجازر في عام 1948، ومرّت فيما مرّت بمجازر لبنان، وصولاً إلى مجازر سوريا. لقد حكمت المنطقة وما زالت، بأنظمة فاشية ديكتاتورية شمولية، إسرائيل ليست استثناء بينها.

لقد عاد سفاح بيروت إلى دمشق، ومارس ما مارسه في تل الزعتر، في مخيم اليرموك. تغيرت الأحلاف، صحيح، فمن محالفة اليمين اللبناني، إلى محالفة التطرف الشيعي ممثلاً بنصر الله، لم يكن الفرق كبيرًا. لقد حارب حزب الله حركة أمل مع الفلسطينيين في حرب المخيمات، بل وحارب الجيش السوري في إطار الصراع على النفوذ بين سوريا وإيران في لبنان. واليوم، يحاربُ ثلاثتهم في حلفٍ واحد في سوريا.

يزعم البعض، أن شارون استخدم إيلي حبيقة للقيام بالـ"أعمال القذرة"، في مخيم صبرا وشاتيلا. إلا أن الحقيقة، أن الأعمال القذرة من طبيعة السياسة والحروب في هذه المنطقة، وربما من طبيعة هذا العصر نفسه. لا تختلف الأعمال القذرة في سوريا عن تلك التي جرت في لبنان، وإن كانت معركة لبنان أكثر وضوحًا مما هي عليه في سوريا اليوم، بعد أن هُزمت الثورة ومُسخَتْ إلى حرب أهلية قذرة، فإن القتلة على ما يبدو لا يختلفون كثيرًا عن قتلة الأمس، فما زالت إسرائيل تقوم بأعمالها القذرة في جنوب سوريا، كما كانت تقوم بها في جنوب لبنان، وما زال الجيش السوري يقوم بأعماله القذرة في حق الشعب السوري، كما يفعل أي ديكتاتور آخر.


اقرأ/ي أيضًا: 

رقصة الفالس بين شاتيلا وأوشفيتز

في غزة.. صناعة الممثلات "زراعة في أرض بور"

الجامعة: حب، ملابس وأحزاب