07-أكتوبر-2024
مجزرة الطحين

(Getty)

3628 مجزرة ارتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزّة على مدار عام، تحوّل خلاله القتل الجماعيّ لأهالي القطاع، إلى سياسة إسرائيليّة معلنة. في "شهادة على مجزرة"، نحاول عبر سلسلة موادّ، تناول أبرز المجازر الإسرائيليّة في قطاع غزّة، من خلال شهادات من عاش ساعات ودقائق هذه المجزرة، في سرد شخصيّ يعكس جزءًا ممّا حدث.


في الثامن والعشرين من شباط/فبراير، وبينما كان الجوع يضرب أنيابه بقسوة في شمال قطاع غزة، بفعل اشتداد الحصار الإسرائيلي، الأمر الذي دفع الأهالي هناك إلى طحن أعلاف الحيوانات وخبزها وأكل أوراق الشجر، سرى خبر بين المواطنين المنهكين جوعًا بأن قافلة مساعدات تضم أكياسًا من الطحين ستدخل هذه الليلة من ناحية "محور نتساريم" مرورًا بدوار النابلسي.

وما أن حل مساء ذلك اليوم، حتى تدفق عشرات آلاف المواطنين الجوعى في سيل بشري لشارع الرشيد، وهناك باتوا ليلتهم الباردة بين بقايا المنازل والاستراحات التي دمرتها طائرات الاحتلال، وسط ترقبهم في كل لحظة سماع أصوات أبواق الشاحنات التي تقل الطحين.

كانت مجزرة النابلسي أو مجزرة الطحين، واحدة من أبرز أحداث الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة

الشاب الصحفي علي أبو شنب (22 عامًا) كان من بين هؤلاء الآلاف الذين قدموا للشارع الساحلي، يقول أبو شنب: كانت أعداد المواطنين مهولة وأكثر من المرات السابقة، ولم تكن مقتصرة على الشبان والرجال بل كان بينهم نساء وأطفال، وعند حديثي لإحدى النساء المسنات عن سبب حضورها، قالت لي: "الدنيا ليل ومش راح أعرف أنام وأنا قلقانة على ابني، أجيت معه أساعده".

ويتابع أبو شنب، أشعلنا موقدة نار صغيرة من بقايا أخشاب إحدى الاستراحات المدمرة، وجلسنا نتبادل الهموم ونتحدث عن مآسي وآلام الحرب، وكلنا آذان صاغية لسماع صوت أبواق الشاحنات التي تقل أكياس الطحين والمساعدات والذي اعتدنا عليه.

ويضيف أبو شنب، تأخرت الشاحنات بالوصول وبدأ الأمل ينفذ لدى الجميع خاصة بعدما اقتربنا من ساعات الفجر في ظل الأجواء الباردة جدًا، ولكن لم يكن أمامنا خيار آخر سوى المزيد من الانتظار.

وبينما كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة والنصف من فجر يوم التاسع والعشرين من شباط/فبراير، انطلقت مجموعة من الدبابات بصورة مفاجئة من الحاجز العسكري المحاذي لدوار النابلسي من جهة "محور نتساريم"، وشرعت بإطلاق زخات الرصاص باتجاه المواطنين لمدة تزيد عن عشرة دقائق متواصلة. 

ويضيف أبو شنب، تفرقت الجموع من هول الصدمة، فبعضهم بقي منبطحًا على الأرض، وآخرين احتموا بركام المنازل وآخرين استمروا في الركض إما باتجاه الشاطئ أو في الشوارع الفرعية، ولم يكن أحد يجرؤ على تفقد المصابين والشهداء أو مساعدتهم لكثافة إطلاق النار.

ويتابع أبو شنب، كنت أنا ممن اختبئ خلف جدار أسمنتي طوله متر واحد جهة كورنيش البحر، وبقيت منبطحًا على الأرض حتى توقف صوت الرصاص، وفجأة سمعنا صوت أبواق الشاحنات وهي تنطلق من جهة الحاجز، وما أن وصلت دوار النابلسي حتى انطلق الشبان وأنا منهم باتجاهها.

ويردف أبو شنب، بدأ الشبان بالصعود على الشاحنات وتناول أكياس الطحين، أما أنا فكنت قد وزعت الدور بيني وبين أحد جيراني بأن يصعد هو على الشاحنة ويلقي كيس الطحين وأنا بدوري أقوم بتأمينه، وفي تلك اللحظة عادت الآليات لإطلاق النار بوتيرة أعلى من قبل، كما سمع صوت انفجار قذيفة دبابة، فأصيب الشاب بيده وانبطحت أنا على الأرض.

ويضيف أبو شنب، شاهدت رجلًا أمامي كان يحمل كيسًا من الطحين ويركض به رغم إطلاق الرصاص، وبعد لحظة أصابته رصاصة في قدمه، فسقط فوق الكيس على الفور، واختلط دمه بكيس الدقيق.

ويتابع أبو شنب، استمريت في الانبطاح على الأرض وسط الشارع وأنا أشاهد الشهداء والجرحى ملقون الأرض، دون أن أجرؤ على الوقوف والركض نحو أحد المنازل المدمرة؛ لأن هذا يعني قنصي مباشرة، وبينما أنا كذلك لم أجد أمامي سوى شاحنة توقف سائقها عن السير من هول الصدمة، فزحفت عدة مترات على الأرض وتشبثت بمقدمتها، وصرخت على السائق: "يلا امشي.. امشي.. الرصاص علينا"، عاد السائق للسير في الشارع الوعر وأنا متشبث بالجسر الحديدي في مقدمة الشاحنة وبدأت بالصراخ عليه: "امشي بشويش -ببطئ- بلاش أقع تحت الشحن".

ويواصل أبو شنب سرد شهادته على المجزرة، استمر السائق في المسير حتى ابتعدت عشرات الأمتار عن المفترق وهناك لاح أمامي منزلًا مدمرًا وكانت الشاحنة قريبة منه، فقفزت من مقدمة الشاحنة واتجهت للاحتماء خلف أحد حوائطه بسرعة كبيرة، فيما كانت الأرض مفروشة بالشهداء والجرحى، ولا زال دوي صوت الرصاص مسيطرًا على الأجواء.

ويضيف الشاب العشريني، عند وصولي للمنزل المدمر وجدت من نجا بنفسه مثلي، ووجدت بضع صناديق مساعدات ملقاة على الأرض، قمنا بفتحها فوجدنا بعضها يحتوي أقمشة بيضاء، فيما يبدو  أنها أكفان فاستخدمناها بعد ذلك في إسعاف المصابين وتضميد جراحهم، كما وجدنا صناديق وزجاجات مياه شرب، فغسلنا فيها وجوهنا المغبرة، وأيادينا المصبوغة بالدماء.

ويواصل أبو شنب سرد روايته، طلع النهار وأشرقت أشعة شمس الصباح على دماء ضحايا "مجزرة الطحين" المسفوح على الأرض، وبدأ الناس بنقل المصابين على العربات التي تجرها الدواب أو تلك التي يتم دفعها بالأيدي في محاولة لإنقاذ حياتهم، فيما بقيت جثامين الشهداء على الأرض لعدة ساعات.

ويرفض أبو شنب رواية المتحدث باسم جيش الاحتلال عن أن سبب عدد الوفيات الكبير هو التدافع والتزاحم من قبل الشبان حول الشاحنات، مؤكدًا أنه شاهد بأم عينه طلقات الرصاص المضيء وهي تنطلق من جهة الحاجز العسكري باتجاه دوار النابلسي حيث تجمع المواطنين.

ويضيف أبو شنب، على فرض على أن هؤلاء الشهداء قتلوا جراء التزاحم فمن أين جاءت تلك الجروح الغائرة التي كانت في أجساد الشهداء والمصابين؟ ثم لماذا كانت جثث الشهداء ملقاة بعيدًا عن خط سير الشاحنات بعدة أمتار وليس بجانب الشاحنات أو أسفلها!

عاد من استطاع النجاة إلى عائلته فارغ اليدين، فيما لم يعد 118 مواطنًا إلى عائلاتهم سوى جثث هامدة، فيما أصيب 760 آخرين، وفقًا لآخر إحصائية أصدرتها وزارة الصحة في غزة.