17-ديسمبر-2018

"كان صالح إذا دخل الدار جاب الفرح والبهجة معه" تقول سهير البرغوثي، والدة صالح عمر البرغوثي، الذي أعلن الاحتلال الإسرائيلي استشهاده في ظروف غامضة، ثم اعتقل والده وشقيقه الأكبر عاصف، في ليلة طويلة بدأت فصولها في قرية سردا قرب رام الله، مساء الأربعاء 12 كانون أول/يناير، باختطاف صالح حيًا من سيارة أجرة يعمل عليها، ثم انتقل فصلها الثاني إلى منزل عائلته ببلدة كوبر شمال غرب رام الله، ولا زال ظلام هذه الليلة قائمًا، مع توالي تبعات الواقعة على العائلة.

صالح "أبو قيس"، زار والده عمر وأمه سهير، عند الساعة السابعة من صباح الأربعاء. دعته أمه للإفطار معهما وتناول الشاي، فأبلغها أنه تأخر على العمل وهناك طلابٌ بانتظاره ليأخذهم إلى المدرسة، فهو يعمل سائقًا لسيارة أجرة. بعد إلحاح أمه عليه أن لا يخرج دون إفطار، طلب منها أن تسكب له الشاي وأعطته معها موزة وتفاحة، ثم خرج. كان هذا اللقاء الأخير مع الشاب (29 عامًا) الذي يُعرف في منزله وبين أهل بلدته ببشاشته وخفة ظله، أو كما تقول أمه "دايمًا يضحك، لا بكشّر ولا بعصّب".

قال ضابط المنطقة لعمر البرغوثي: "هي قتلنالك صالح، مين بدو يربي ابنه؟"، فأجاب عمر، "أنا بربيه"

وصالح، كان "يُحب شغل المطبخ. أول ما يدخل من شغله يجي ع البيت يسأل شو طابخة، ويجمع العيلة كلها ع الأكل. يعمل بُشار، ومرات يدخل ع الدار حامل المسبحة وبدبك، بمسك في إيد ابنه يدبك معه، ومرات بمسك في إيدي وبقلي يلا يما إنت صاحبة كيف ادبكي معنا" قالت أمه.

اقرأ/ي أيضًا: عائلة الشهيد صالح تفند رواية اغتياله

ظهرًا، اتصلت زوجة صالح به لتطلب الذهاب إلى أهلها في بيت ريما، فأبلغها أنه سيصحبها مع طفلهما قيس بعد العمل للسهر هناك. كانت قد ارتدت ثيابها وجهزت قيس عندما اعترضت سيارة مدنية طريق صالح أثناء عودته إلى كوبر، وبعدها اختفى صالح، وتواردت الأنباء المتضاربة عن مصيره، قبل إعلان الاحتلال رسميًا عن استشهاده.

كيف علمتم بالخبر؟ يقول خلدون البرغوثي من أقارب الشهيد، وأحد من تواجدوا في المنزل عند اقتحامه وتم اعتقاله في الليلة ذاتها، أن ضابط المنطقة المعروف باسم "ذياب" قال لعمر البرغوثي "هي قتلنالك صالح، مين بدو يربّي ابنه؟" فأجاب، "أنا بربيه".

تُبين "أم عاصف" لـ الترا فلسطين أن الضابط قال لها "هي صالح مات، الله يرحمه"، فأجابت، "إنتو الله لا يرحمكم"، وأضافت، "إنتو كلبشتوا صالح ونزلتوا من السيارة وهي حي، وطالما بتحكوا إنه صالح استشهد، معناها إنتوا عدمتوه بدم بارد. وين جثمانه؟ نشرتوا فيديو تابوت وقال هذا تابوت صالح البرغوثي، من ايمتا بتحطوا شهداءنا في توابيت؟".

على هذا الأساس، لا زالت والدة صالح ترفض تصديق أن ابنها استُشهد، وهي تطلب مشاهدة جثمانه أو كشف مصيره إن كان حيًا، وهو ما طالبت به العائلة في بيان صحافي خاطبت خلاله المؤسسات الحقوقية والقانونية. لكن والدة الشهيد رغم ذلك، قالت للضابط: "إذا فعلاً صالح استشهد، السما انضوت لصالح. الملائكة نزلت ع الأرض لصالح".

يسرد خلدون البرغوثي لنا جانبًا من التحقيق معه حول استشهاد صالح بعد اعتقاله، مبينًا أن الضابط قال له إن "صالح نذل، ولو تعرف شو عمل رح تبصق عليه"، فأجاب، "فشرت! ليش بدي أبصق عليه؟"، ثم طلب منه توضيح ما فعله صالح، إن كان شهود العيان قد أكّدوا أنه لم يحاول الهرب، ولم يحدث بينه وبين الجنود أي اشتباك، فما الذي فعله إذن حتى يُقتل؟ 

أجاب الضابط أن "90% من شهود العيان دائمًا يكذبون"، فقال البرغوثي: "واحنا بالنسبة إلنا الـ10% الي ظايلين هذول صادقين". عاد البرغوثي ليسأل الضابط عن ما فعله صالح، فقال: "إنت عارف شو عمل". فسأله إن كان يقصد أن له دورٌ في "عملية عوفرا"، لكنه رفض تأكيد ذلك. "قلتله بدي أنقل ع لسانك إنه صالح نفذ عملية عوفرا، رفض أكثر من مرة. كان حريص إني ما أنقل ع لسانه هذا الكلام، أنا استغربت هذا الحرص".

هل يكفي إعلان أذرع الاحتلال، للتأكد من فرضية أن صالح استُشهد؟ وأنه ليس على قيد الحياة الآن ويخضع للتحقيق سرًا؟ أو أنه -على الأقل- استُشهد فعلاً في الليلة ذاتها، وليس لاحقًا عن طريق تصفيته؟ يُجيب الكاتب الإعلامي في الشأن القضائي ماجد العاروري بأنه لا يُمكن الحكم بمقتل شخص إلا أن يكون هناك جثة، تتم معاينتها، والتأكد من هوية صاحبها من خلال معاينة ذويها، وتأكدهم من أنها جثة الشخص المعني.

خبير قضائي: لا يُمكن التسليم بحدوث جريمة قتل إلا في حال مشاهدة الجثمان. الرواية الإسرائيلية حول استشهاد صالح غير مقنعة ولا يوجد ما يثبتها

ويُشير العاروري إلى أن مصلحة الاحتلال تقضي بإلقاء القبض على صالح حيًا، "وبالتالي فإن الرواية الإعلامية الإسرائيلية بأن صالح البرغوثي قد استشهد غير مقنعة ولا يوجد ما يثبتها، وعليه تتحمل السلطات الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن سلامته".

اقرأ/ي أيضًا: أين أخطأنا في قضية استشهاد صالح البرغوثي؟

إعلان الاحتلال عن استشهاد صالح مصدره جهاز "الشاباك"، وجيش الاحتلال، والناطق باسم مكتب رئيس الحكومة، أوفير غندلمان، وقد تحدث الجميع عن دور صالح في "عملية عوفرا". يطرح هذا سؤالاً عن دافع الاحتلال لإعدام صالح، إن كان يريده حيًا للتحقيق معه والتوصل من خلاله لبقية أعضاء الخلية التي نفذت العملية المذكورة.

يُجيب على هذا السؤال، الصحافي المتخصص في الشأن الإسرائيلي أنس أبو عرقوب، أن الإعلان عن قتل الشاب قد يكون نابعًا من دوافع إرضاء الرأي العام في المستوطنات بعد توالي العمليات، ولترميم شعور المستوطنين بالأمن الشخصي، دون أن يستبعد علاقة الأمر بالجانب الاستخباري، مثل إتاحة المجال أمام المحققين لاستخدام وسائل في غاية القسوة قد تفضي إلى الموت، أو تلحق عاهات دائمة بصالح خلال التحقيق معه، بهدف استخلاص معلوماتٍ بأقصى سرعة ممكنة.

ورأى أبو عرقوب أن الأمر يعود لاعتقاد "الشاباك" أن صالح جزءٌ من خلية عسكرية، وبالتالي فإن إعلان استشهاده قد يجعل الخلية تشعر بالأمان أنه لم يحدث تحقيق، ولم يتم التوصل له، فتسترخي ويسهل إلقاء القبض على عناصرها.

ربما أراد الاحتلال بإعلان استشهاد صالح تهدئة المستوطنين، أو مباغتة الخلية، أو منح المحققين الفرصة لاستخدام أساليب قاتلة في التحقيق مع صالح

لكن هل حدث ما يُشبه هذه القصة سابقًا؟ يُشير أبو عرقوب إلى قضية "الخط 300" التي دارت أحداثها عام 1984، عندما أسرت مجموعة فدائية، حافلة ركاب إسرائيلية، بغية مبادلتهم بأسرى فلسطينيين. في تلك العملية، سيطرت المجموعة على الحافلة، واقتادتها إلى غزة، لكن في الطريق أفرجت عن إحدى الأسيرات لأنها حامل، فأبلغت بدورها عن الحافلة ليلاحقها جيش الاحتلال ويقتحمها.

في ذلك الوقت، أصدر جيش الاحتلال بيانين متناقضين، قال في الأول إنه قتل اثنين من المجموعة واعتقل اثنين، وفي الثاني أعلن عن مقتل جميع أفراد المجموعة التي كانت مسلحة بالسكاكين فقط، إضافة لمقتل مجندة.

بعد ثلاثة أسابيع نشرت صحيفة "حدشوت" الإسرائيلية، متجاوزة الرقابة العسكرية التابعة لجيش الاحتلال، اقتباسًا لنبأ نشرته "نيويورك تايمز" يفيد أن اثنين من منفذي العملية أُلقي القبض عليهما أحياءً، فصدر أمرٌ بإغلاق الصحيفة العبرية ثلاثة أيام وأُخضع الصحافيون فيها للمحاكمة. ثم بتاريخ 25 نيسان/إبريل 1984، نشرت مجلة "هعولام هزيه" الأسبوعية العبرية، صورة توثق اقتياد مجدي أبو جامع حيًا، وهو أحد أفراد المجموعة.

"الشاباك" أعدم أسيرين بعد اعتقالهما في ثمانينات القرن العشرين. تم الإعدام بسحق رأسيهما بواسطة الحجارة والقضبان الحديدية

لاحقًا، بث التلفزيون الإسرائيلي فيلمًا بعنوان "حرس البوابة"، تضمن اعتراف رئيس "الشاباك" آنذاك أبراهام شالوم، أنه أصدر أمرًا بإعدام مجدي أبو جامع الذي ظهر في الصورة، وصبحي أبو جامع، بعد اعتقالهما. عندما سُئَلَ "على أي خلفية كان رئيس الوزراء شامير يعطيك تصريحًا بالقتل؟". أجاب، "في حادثة أو حادثتين، لم أجده، وكان يجب فعل ذلك. شامير قال لي في السابق: في حال لم تجدني، قرّر وحدك". وتابع، "في الحرب على الإرهاب، إنسَ الأخلاق".

رئيس قسم العمليات في "الشاباك" يهودا ياتوم، كان أحد المشاركين في الإعدام، وقد أعرب عن فخره بقتل الأسيرين، خلال حوارٍ مع صحيفة "يديعوت أحرنوت" عام 1996، حيث قال: "لقد هشّمت جماجمهم بأمر من الرئيس أفراهام شالوم، وإنني فخور بما فعلت".

تمّت الجريمة بسحق رأس الأسيرين بالحجارة والقضبان الحديدية، وعندما فُضِحَت القصة، وجد وزير جيش الاحتلال موشي ارنس نفسه مضطرًا لتشكيل لجنة تحقيق. ثم في عام 1986، صدر عفوٌ عن الضباط منفذي الجريمة، ولم يتم إخضاعهم للمحاكمة.

حكاية صالح تُعيد إلى الأذهان أيضًا، قصة الشهيدين عادل وعماد عوض الله، إذ تم اعتقالهما بعد محاصرة منزل يتحصنان فيه دون العثور على آثار دماء في الموقع، ولذلك فإن العائلة ظلَّت مصرة على أن نجليها لم يُقتلا خلافًا لما أعلنه الاحتلال، حتى تم تسليم جثمانيهما قبل سنواتٍ مع عشرات الجثامين التي سلمها الاحتلال على دفعاتٍ بعد احتجازها لسنواتٍ طويلة لديه.

وبغض النظر إن كان صالح حيًا الآن ويخضع لتحقيقٍ شديد القسوة، أو أنه ارتقى شهيدًا خلال الأيام الماضية، إلا أن حقيقة واحدة في هذه القضية لا يُمكن إنكارها ولا تجاهلها، وهي أن صالح اختُطِف من سيارته حيًا ولم يكن مصابًا بجروح، وإن كان قد استُشهد فهذا يعني ضرورة فتح تحقيق في كيفية إعدامه لاحقًا، ما يستدعي تحركًا قويًا ومسؤولاً من المؤسسات الحقوقية لكشف ما يخفيه الاحتلال من حقائق في هذه الجريمة.


اقرأ/ي أيضًا: 

صالح استشهد.. هذا ما حدث في رام الله

كيف تُدير إسرائيل حرب الأخبار المفبركة؟

احضر لي قتيلاً فلسطينيًا واشرب شمبانيا