18-يونيو-2017

صورة أرشيفية: مسحراتي في مدينة غزة - تصوير محمد عابد (Getty)

"الرِجل بتدب مطرح ما تحِب.. وأنا صنعتي مسحراتي منقراتي في البلد جوال". بهذه الكلمات يخرج الستيني إسحاق قنيطة "أبو يوسف" من منطقة الشجاعية شرق قطاع غزة، حاملًا طبلته الكبيرة متوجهًا إلى شوارع الحي؛ لإيقاظ أكبر عددٍ ممكن من الناس، مرددًا المدائح النبوية التي حفظها عن ظهر قلب من أبيه وأجداده.

يستذكر "أبو يوسف"، مواقف عصيبة مر بها خلال عمله والضحكة تعلو مُحياه. يقول: "في الحرب الأخيرة تعرضت الشجاعية لألوان من العذاب، وكُنا في شهر رمضان، فخرجت بطبلتي لأوقظ الناس. وعندما وصلت آخر شارع النزاز الذي يصل للخط الشرقي الحدودي، كان الوضع الأمني على أشده والطائرات تقصف، والناس مستيقظة بلا طبل. قال المقاومون ارجع ارجع يا أبو يوسف، فعدت هاربًا وأنا أستظل الحائط الحائط ولم أخرج بعدها في ذلك الرمضان أبدًا".

يأخذ "مسحراتية" غزة كلمات نداءاتهم من الأوضاع السائدة، تختلف أزياؤهم لكنهم يلتقون على ارتداء الكوفية

وكان خروج المسحراتي في تلك الأجواء الرمضانية التي غيّرت الحرب ملامحها يُلقي شيئًا من الطمأنينة على قلوب الناس في بداية العدوان، إلا أن الأيام الأخيرة قُبيل المجزرة كانت خطرة للغاية فلم تُبقِى ولم تذر.

اقرأ/ي أيضًا: السوق نازل.. عن رمضان الزمن الجميل

ويأخذ "أبو يوسف" كلمات مواويله من الأوضاع السائدة، ومنها الجانب الاقتصادي. فيردد مثلاً: "يا عبد لا تنقهر رزقك على الباري.. هو الحكيم العليم بمواجع كدا داري، وإن ابتليت يا عبد داري ع بلوتك داري.. ربك يجيب الفرج ولا حد بيه داري".

كما يردد بلهجته الغزاوية بعض المقاطع الإيمانية: "والليل كله مكاسب بس آه النوم.. يرتاح فيه الجسد لكن يجي باللوم، وحياة واحد نبي أنشى الصلاة والصوم.. ما أشيل مقادم شرف اليوم وغير اليوم".

مسحراتي معسكر الشاطئ غرب قطاع غزة يوسف رضوان (30 عامًا) يزاول مهنته الموسمية في شهرِ رمضان منذ 10 سنوات. يقول: "العلاقة بيني وبين السكان تعدت حدود عملي إلى علاقة الأهل، فما أجمل أن تخرج سيدة عجوز بصحن ممتلئ بشرائح البطيخ وتُصر عليّ تناوله معها عند عتبةِ البيت".

ولا ينفك الصغار عن الالتفاف حول رضوان أثناء جولته الليلة؛ حتى ينادي كلاً باسمه بموال فلسطيني يشدّ أذان السامع إليه. يقول: "هناك طفل بقي خلفي من أول المعسكر حتى نهايته وأنا لا أعرف ماذا يريد حتى سألته، فطلب منّي العودة معه حتى منزله ليدخل فيه وأنا أقوم بالمناداة ذاكرًا اسمه فيخرج كأنه استيقظ توًا على صوت تسحيري إياه".

ويضحك رضوان ملء القلب وهو يسرد موقفًا صادفه قبل سنوات، إذ كان يدق على الطبل والأجواء ليلية وهادئة، ورجل يسكن في أحد الطوابق العليا يخشى على صغاره الاستيقاظ من صوت الطبل، ويحاول جاهدًا أن ينادي عليه ولكنه لم يسمعه لبُعد المسافة وعلو الصوت بيده، فما كان من الرجل إلا أن ألقى عليه كوبِ ماء فخرّ ضاحكًا من وقع المفاجأة".

ويبتكر رضوان في كل عام موالًا جديدًا يتلاءم مع الأوضاع الغزية القائمة، فكان مواله لهذا العام، "الدنيا ماشية ورايحة فينا ومحدش فيها مدور علينا، لا كهربا ولا مية والحصار اشتد علينا، الكهربا قاطعة والناس خارج البيوت لا رواتب ولا فلوس". ويطمح أن يصبح لـ"المسحراتية" في قطاع غزة زيٌ موحد، "يعكس طابع التراث الاسلامي والفلسطيني الذي يحافظ على هوية الشعب الفلسطيني" وفق قوله.

يروي أحد المسحراتية، أنّ ساكنًا في أحد الطوابق العليا كان يناديه للتوقف عن الدق على الطبل خوفًا من استيقاظ صغاره، وعندما لم يسمعه ألقى عليه بكوبٍ من الماء، فخرّ من شدة الضحك!

وسام الكيلاني، طالبٌ جامعي يدرس الهندسة الزراعية، ينطلق من مسكنه في محافظة بيت لاهيا شمال قطاع غزة برفقة اثنين من أصدقائه هما طه طه، وأمير الدحنون، مجربًا التسحير لأول مرة في حياته، ويبدو متشجعًا لتكرار التجربة. يملك وسام صوتًا جميلاً وموهبة جذابة في المديح النبوي، تجلّت خلال مشاركاته في العديد من "الأمسيات الإيمانية".

ولا ينسى الأصدقاء الثلاثة التذكير بقضايا وطنية خلال نداءاتهم، ليس أولها حصار غزة، ولا آخرها الأسرى في سجون الاحتلال، فتسمعهم يقولون: "قوم قوم يلي نايم، قوم على سحورك قوم، قوم وانت يا غفلان وحد الرحمن، قوم شعبي شعب كبير صامد، والله كثير وقت الشدّة وقت المحن بعطف ع الفقير، قوم قوم أسرانا البواسل احنا معاكم، واحنا فداكم ومعكم واقفين بهالشهر الكريم".

وفي جنوب قطاع غزة حيث مدينة رفح، يتولى عطية الحمايدة من حي الشابورة، وهو مفتش صحي في وزارة الصحة إيقاظ الأهالي للسحور، محاولاً إضافة أجواء من النكتة ورسم البسمة على وجوههم، فهو رجل كوميدي تحضر الدراما والكوميديا بقوة في حياته، جاء جانب منها خلال 11 عامًا مرت على عمله في التسحير بشهر رمضان المُبارك.

اقرأ/ي أيضًا: منسف ومفتول وخبز.. ما علاقتها برمضان؟

ويقف الحمايدة ضاربًا موالًا عند كل بيت مناديًا باسم صاحبه وأسماء أبنائه، وهو يعرفهم واحِدًا واحدًا. يردد مثلاً: "يا أبو أشرف يا حبيبنا أوعى تروح وتسيبنا، يا أبو ابراهيم يا غالي وانت دائما على بالي"، إلى أن يصل مختار الحي فيوقظه ممازحًا: "يلا اصحى يا مختار والعيدية السنة بالدولار".

ويشير الحمايدة إلى أنه بدأ عمله منذ بداية الانقسام الفلسطيني، واشتداد الحصار على قطاع غزة، عام 2006. يقول: "لم تكن الناس متقبلة فكرة خروج المسحراتي عليهم بطبلته وهم محزونون ومكبلون بالوجع، فحاولت أن أحببهم بعملي من خلال ابتكار مواويل تناسب أحوالهم مثل: (يا أبو العبد يا هنية بدنا الوحدة الوطنية)، وكنت أنادي بأسماء القادة واحدًا تلو الآخر أيضًا".

ويذكر الحمايدة أن بين الجيران الذين يوقظهم باعة في السوق، يتعاطى معهم بحكم عمله في التفتيش عن البضائع الفاسدة والمنتهية الصلاحية. يقول: "في بداية تجربتي كنت أنادي على رجل ليقوم للسحور، فخرج وهو مستيقظ للتو من النوم، ولما رآني تفاجأ كأنه في حلم، وأصبح يقول هل ستلحقني إلى هنا أيضًا؟ ألا يكفي السوق! ولم يستوعب الأمر حتى رآني أُسحر والطبلة في يدي".

ويلبي المسحراتية في قطاع غزة طلبات الأهالي بذكر أسماء أبنائهم الشهداء والدعاء لهم، ولا يتوانون عن قبول طلباتهم بتصويرهم وهم ينادون بأسماء أبنائهم المغتربين لإرسال المقاطع المصور لها، مذكرينهم بالأجواء الرمضانية الفلسطينية.


اقرأ/ي أيضًا: 

طبيلة رمضان.. هل سمعتم بهم؟

رمضان يعيد الحردانات إلى بيوتهن

صور | ليالي المقاومة في رمضان