05-مارس-2018

جدارية للنكبة في غزة - تصوير مجدي فتحي (Getty)

"المنتصرون يكتبون التاريخ ولا يتركون للمهزومين سوى صياغة ذاكرة الهزيمة"/ فالتر بنيامين.

"لا يحتاج الفلسطينيون إلى تاريخ إلا إذ كانوا قادرين على استثماره في معارك لا تجدد هزائمهم"/ فيصل دراج.

يجادل صالح عبد الجواد في مقاله "لماذا لا نستطيع أن نكتب تاريخنا المعاصر من دون مصادر شفوية: حرب 1948 كحالة دراسية". ]مجلة الدراسات الفلسطينة. عدد 64. 2005] حول إشكالية كتابة التاريخ الفلسطيني المعاصر، وخصوصًا مرحلة النكبة 1948 دون الاستناد إلى التاريخ الشفوي؛ ويبرر عبد الجواد ادعاءه بسرد عدد كبير من الدلالات والمؤشرات التي تدعم أطروحته ومنها: تدمير وضياع ونهب وسرقة وإتلاف العديد من المصادر الأولية والثانوية المتعلقة بالقرى والمدن الفلسطينية، والمؤسسات الخاصة والعامة والعائلية إبان نكبة عام 1948.

ووفق عبد الجواد، فقد كان لحرب عام 1967 دور في استمرار نكبة الشعب الفلسطيني ومصادر المعرفة المرتبطة به؛ إذ تم إتلاف العديد من الوثائق؛ وأخرى تمت مصادرتها ونهبها، كما قام عدد كبير من الفلسطينين بتدمير الوثائق وحرقها وإتلافها خوفًا من وقوعها في يد إسرائيل، وقد استمرت عملية السرقة والنهب للذاكرة الفلسطينية المكتوبة والموثقة إلى حرب عام 1982 على منظمة التحرير في لبنان، فقد تمت سرقة أهم مركز رسمي فلسطيني متخصص في القضية الفلسطينية (مركز أبحاث منظمة التحرير).

النهب والتدمير وغياب ثقافة الأرشقة لدى الجيوش العربية أدى لغياب جزء من حقيقة ما حدث إبان النكبة

كما يجادل عبد الجواد أن النهب والتدمير والسرقة ليست هي المسببات وحدها في إشكالية كتابة التاريخ الفلسطيني؛ وإنما غياب ثقافة الأرشفة أو إهمال أعمال الأرشفة لدى الجيوش العربية التي شاركت في حرب عام 1948، فكان لهذا الإهمال دور في غياب جزء من الحقيقة والوقائع التاريخية إبان النكبة. كذلك فإن فرض الرقابة على الأعمال البحثية والتاريخية العربية من قبل السلطات العربية غير الديمقراطية، أثر في منع السماح للباحثين بالدخول إلى الإرشيفات الحكومية والمركزية.

اقرأ/ي أيضًا: من ذاكرة الهزيمة

إلى جانب ذلك، هناك رقابة عسكرية إسرائيلية على الأعمال البحثية أو التوثيقة أو السير الذاتية التي يكتبها مسؤولون حكوميون أو وزراء فيجب عرضها على الرقابة العسكرية. يبين عبد الجواد أن الأرشيفات الإسرائيلية التي فتحت أو العربية لم تفتح بشكل كامل، وإنما بقي جزء سري للغاية ولم يفتح، وهناك وثائق تم تغطية جزء من محتواها بلون أسود غامق، بحيث يخفي الكلمات الموجودة في النسخة الأصلية، لكن يجدر التنويه إلى أن هناك باحثين فلسطينين شباب استطاعوا تجاوز مأزق الحجب الإسرائيلي والرقابة لعدد من الوثائق والملفات، وقد حصلوا عليها بمهارات عالية وذكاء بارع، ووظفوها في دراساتهم وأطروحاتهم، وقد برع باحث شاب وواعد في إنجاز أطروحة عن حامية يافا بالاعتماد على الأرشيف الصهيوني بشكل كامل وحصل على وثائق كانت محجوبة كليًا.

باحثون فلسطينيون شباب تجاوزا مأزق الحجب الإسرائيلي لوثائق هامة، وحصلوا عليها بمهارات عالية وذكاء بارع

كما بين عبد الجواد أهمية المصادر الشفوية وصدقيتها من خلال مقارنتها مع استنتاجات لمؤلفين اعتمدوا مصادر تاريخية غير شفوية، كذلك استند على آراء وشهادات باحثين أشادوا وبينوا أن هناك مصداقية في الروايات الشفوية للفلسطينيين.

في حين بيّن مبني موريس في كتابه مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينين، أنه غير مهتم بالشهادات الشفوية للفلسطينيين والإسرائيليين؛ كونه غير مرغوب الاعتماد على الذاكرة البشرية لإلقاء الضوء على حدث وقع قبل أربعين عامًا، وقد حسم قراره بعد توجيه سؤال إلى يغائيل يادين (عسكري ومؤرخ) عن طرد العرب من اللد، فكان رد يادين أي طرد؟ وما حدى بموريس الاعتماد على الوثائق الإسرائيلية، هو فتح الأرشيف الإسرائيلي للهاغاناة والجيش الإسرائيلي، وأرشيف المجلس الوزاري. إلى جانب ذلك كان هدف موريس أساسي ومنهجي في تحديد أسباب مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينين وإثبات أن فكرة التهجير القسري للفلسطينين كانت حاضرة في ذهن القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، لكن لا توجد أوامر صريحة في طرد الفلسطينين.

اقرأ/ي أيضًا: نابلس – جنين: ذاكرة فلسطين ونفطها ورائحتها الزكية

كما جادل عادل مناع في كتابه نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل 1948-1956 بأهمية التاريخ الشفوي كمصدر رئيس وهام في توثيق النكبة الفلسطينية والأقلية الفلسطينية التي بقيت في الأراضي المحتلة عام 1948، باعتبار أن الفلاحين الفلسطينيين لم يتعلم معظمهم القراءة والكتابة، ولم يكتبوا يومياتهم أو مذكراتهم، ولأن هناك غياب للأرشيفات الفلسطينية، كما بين كيفية تخطي البحث التاريخي إشكالية وثغرات التاريخ الشفوي من خلال فحصها وتمحيصها ومقارنتها مع وثائق ومصادر تاريخية أخرى وهذا كان منهج مناع في كتابه.

البحث التاريخي تخطى ثغرات التاريخ الشفوي من خلال فحصها وتمحيصها ومقارنتها مع وثائق ومصادر تاريخية أخرى

يحاجج قيس فرو بمقولة بول ريكور أن الأرشفة في الأصل عملية انتقائية وتأويلية، وأن السردية التاريخية برمتها هي حلقة تأويل من بدايتها إلى نهايتها، ولا تختلف السردية في التاريخ الشفوي عن مثيلتها في التاريخ الوثائقي، فكلتاهما خاضعة إلى الحلقة التأويلية، حسب ريكور.

ويقول فرو إن المؤرخين الوثائقيين يمثلون روايات تاريخية مهيمنة، مقابل مؤرخين شفويين يمثلون روايات تاريخية لجماعات وشعوب مهمشة لا تملك أرشيفات ومادة مكتوبة تستطيع أن تقدم إليهم العون في إنتاج سردية تاريخية منافسة للسردية المهيمنة والمسيطرة.

إن الحرب التي شنت على المجتمع الفلسطيني منذ ما قبل النكبة وخلالها وما بعدها هي حرب تطهيرية، وليست فقط عملية تطهير عرقي وفق مجادل المؤرخين الإسرائيليين الجدد، وإنما هدفت لتحقيق تطهير الفلسطنة بكل أبعادها لتشمل (الجغرافيا، والديموغرافيا، والهستوغرافيا)، وهذه الحرب استولت على التاريخ الفلسطيني ومصادره ودمرت جزءًا كبيرًا منه، وقد كتبت رواية الحرب من قبل المنتصر ومن خلال تاريخه الرسمي وشبه الرسمي، وهذا ما جادل فيه فيلسوف التاريخ النقدي فالتر بنيامين "أن المنتصرين يكتبون التاريخ"، لكن ذاكرة الهزيمة للمهزومين كتبت التاريخ الفلسطيني أيضًا، ولم تقتصر كتابته وفق مجادلة بنيامين "على صياغة ذاكرة الهزيمة" وإنما صاغت الذاكرة الفلسطينية التي شُنت الحرب ضدها، فكان للتاريخ الشفوي الفلسطيني دور مركزي في إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني، وكان له دور في التأكيد على الهوية الفلسطينية، فكان للفلسطينيين دور في صيانة ذاكرتهم وسرديتهم التاريخية بدل الاعتماد على السردية الصهيونية المضادة.


اقرأ/ي أيضًا: 

يهود الشرق: أسئلة وفُصام الهوية

الهند وإسرائيل وانعكاسات العلاقة على العرب

فيديو | أيهما أجمل.. زمان أم اليوم؟