نحو 75 عامًا مرّت على الملصق الشهير "نستطيع فعلها" الذي صممه جاي هاورد ميلر خلال الحرب العالمية الثانية لشركة "ويستنغهاوس" الكهربائية والصناعية؛ كصورة ملهمة لرفع معنويات العاملات الجديدات، اللواتي دخلن الأعمال المهنية، وجاء تحت مبدأ "إن كانت قادرة على استعمال الخلاط الكهربائي، فهي قادرة على التعامل مع ثاقب الجدران والمعدات الثقيلة الأخرى".
الملصق تحوّل بعد 40 عامًا إلى أيقونة للمرأة القوية التي لم تفقد أنوثتها، وأصبح شعارًا عالميًا للحركات النسائية للتأكيد على الحقوق في العمل؛ والدخول في الميادين المختلفة بصفتها قادرة ومؤهلة، وكونها امرأة لا يفقدها الحق في العمل جنبًا إلى جنب مع الرجل.
والآن، هل استطاعت المرأة في قطاع غزة الحصول على حقها في العمل والتطور المهني في مختلف المجالات؟ "الترا فلسطين" في سياق بحثه عن إجابة على هذا السؤال، تحدث مع سيدات في مناصب حساسة ومهمة ونوعية، تحدين من خلالها الصورة النمطية المجتمعية عن المرأة.
إيمان الحسيني، فلسطينية مسؤولة عن 30 مهندسًا ومهندسة من نخبة العاملين في المجال الهندسي والإنشائي في برنامج الأمم المتحدة UNDP
المهندسة إيمان الحسيني، مديرة وحدة الإنشاءات في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، والمسؤولة عن أكثر من 30 مهندسًا ومهندسة من نخبة العاملين في المجال الهندسي والإنشائي، تحدثت لـ"الترا فلسطين" عن عملها وحياتها الشخصية، وعن تجربة عملية تمتد لـ 34 عامًا حتى الآن.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا يعني أن تكوني موديل في غزة؟
الحسيني (57 عامًا) درست وعملت في الكويت والإمارات أوائل الثمانينيات، وهي الآن مسؤولة عن وحدة هندسية في "UNDP"، تنفذ مشاريع بعشرات ملايين الدولارات سنويًا، وتعد رائدة في مختلف المجالات، حيث عملت الوحدة بعد الحروب الثلاثة على قطاع غزة؛ ونفذت العديد من المشاريع الممولة دوليًا للإعمار في مجالات البنية التحتية من صحة وتعليم وإسكان وحتى الطاقة.
تقول الحسيني، إن أكبر التحديات والعقبات التي تواجه المرأة في العمل بقطاع غزة أن الرجل والمجتمع بشكل عام لديهم نظرة نمطية عن المرأة بأنها غير قادرة على العمل، أو غير مؤهلة، وأنها تأخذ فرصة رجل يحتاج للعمل بشكل أكبر، ما يجعلها دائمة التأهب والحذر وتسعى للوضوح بشكل أكبر من المطلوب لنفي هذه النظرة.
وتضيف أن هذه المعركة تكون على كل المستويات، "سواء موظفة بمهام محدودة أو في الإدارات المسؤولة، ورغم أن ذلك يخلق نوعًا من عدم الراحة والاستقرار، إلا أنه مفيد أيضًا لأنه يخلق حالة كبيرة من المحاسبة والحرص الذاتيين".
ووفق الحسيني، فالمرأة لا تستطيع أن تخوض في مجال العمل دون دعم من الأسرة، ومن الزوج بشكل أساسي في المهام المنزلية والتربوية، "فالمرأة العاملة تشغل 3 وظائف في الواقع: عملها، ومهامها المنزلية، ومهامها كأم في المقام الأول".
المرأة العاملة في فلسطين تشغل ثلاث وظائف، عملها، ومهامها المنزلية، ومهامها كأم
وتؤكد الحسيني أن المسؤولة التي تعطي التعليمات والمهام يجب أن تكون مرنة وتتقبل الجميع بذكاء، "لأن النظرة النمطية من المجتمع الذكوري تجاه المرأة لا تتلاشى عند الجميع بسهولة، إلا عن طريق الوقت والتجربة والمشاركة والعمل".
اقرأ/ي أيضًا: في غزة.. صناعة الممثلات زراعة في أرض بور
والحصول على منصب هام وحساس بمقابل مادي مُجدي لا يحقق الرضى، بحسب الحسيني، التي تقول إن إنجاز الأعمال وصنع الفارق على أرض الواقع هو الهدف الأسمى والأهم، وتذكر أن الوحدة التي تترأسها واجهت عقبات في إزالة الركام بعد دمار 2008، إذ لم تتوفر معدات قوية بمواصفات أمان عالية وتناسب الأماكن المرتفعة حينها، إلا أنهم توصلوا كفريق لحل بوضع طبقات من الركام فوق بعضها وعليها تصعد المعدات العادية المتوفرة لإنجاز مهمات الإزالة والترميم.
ريم أبو جبر، حكاية أخرى اطّلع عليها "الترا فلسطين"، وهي المديرة التنفيذية لجمعية نوى للثقافة والفنون في مدينة دير البلح. نشأت ريم في بيئة تدعم وتساند المرأة بشكل كبير، كما تقول، فهي من عائلة زراعية، وجدُّها أحد كبار المخاتير؛ ودائم الانشغال بحل خلافات مشاكل الأهالي، بينما كانت جدتها سيدة عاملة تتابع أعمال الزراعة في الأراضي التي تملكها العائلة، وتشرف على العمال وتتفق مع التجار، وذلك انعكس على والدها ووالدتها، ثم على تنشئتها والتعامل العائلي الذي يساوي بين الذكور والإناث بالحقوق والواجبات بشكل تام.
ريم (46 عامًا) حصلت عام 2011 على وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي، نظرًا لإنجازاتها في العمل مع الأطفال في قطاع غزة، وذلك أثناء إدارتها لمركز القطان للطفل حتى عام 2014.
ريم أبو جبر فلسطينية حصلت على وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي نظرًا لإنجازاتها في العمل مع أطفال قطاع غزة
جمعية نوى التي تديرها ريم، تنفذ مشاريع مختلفة للأطفال في دير البلح بحوالي نصف مليون دولار سنويًا، وذلك منذ انطلاقها عام 2014 بـ 0 دولار، والآن يعمل معها أكثر من 36 موظفًا؛ وتدير 5 مشاريع ثقافية متنوعة للأطفال في دير البلح، التي تعد من أفقر مناطق فلسطين.
ريم، وهي تحمل شهادة الماجستير في التخطيط الاستراتيجي؛ تحدثت لـ "الترا فلسطين" أنها تركت مركز "القطان" عندما وصلت لسؤال "ماذا بعد؟"، عندما شعرت أنها قدمت كل ما لديها في هذا المكان، ففضلت إفساح المجال لرؤية وأسلوب جديديت، مضيفة "في داخل كل منا حاكم عربي صغير، إذا استمر في نفس المكان فالمقابل المادي يزيد، لكن الخبرة لا توزع والفائدة لا تنتشر على مدى واسع".
شعور الرضى لدى ريم لا يتحقق إلا بتحقيق التعزيز الثقافي والتغيير في المجتمع، خاصة لدى فئة الأطفال، تقول: "المجتمع يغرق ويتراجع، ولا بد من زيادة فرص النجاح بالاستثمار في عقول يافعة قد تمتلك فكرًا متنورًا بمقدوره الوصول بنا وقيادتنا إلى بر الأمان".
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | نانا تكسر ذكورية عزف الإيقاع في غزة
وتنصح ريم الفتيات قائلة: "أرهقن أنفسكن بالقراءة والثقافة، الهدف يجب أن يكون واضحًا وإن كان بعيد المنال (..) الظروف مجرد أوهام، والنماذج الناجحة موجودة".
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن حوالي 11.0% من الأسر الفلسطينية ترأسها نساء، بواقع 12.1% في الضفة الغربية، و9% في قطاع غزة.
رهام عودة، قصة أخرى عن سيدة تدخل مجال التحليل السياسي، وهو المسرح الذي ظل حكرًا على الرجال دائمًا، إلا أنها أصرت على تحقيق طموحها بعد حصولها على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة الأزهر، والماجستير عن بعد في التعاون الدولي والمساعدات الإنسانية من معهد "كالو" في اسبانيا، إضافة لبكالوريوس اللغة الفرنسية ودبلوم في الترجمة الإنجليزية.
بدأت رهام (39 عامًا) التحليل السياسي عام 2012، في الشؤون الفلسطينية والشرق أوسطية، ولديها إنتاج تحليلي مكتوب بشكل دوري، واستضافات على الإذاعات وبعض القنوات المحلية والعربية، كما أنجزت العديد من الأبحاث والدراسات في مجال حقوق المرأة والجندر.
تؤكد رهام لـ"الترا فلسطين" أنه يجب على المرأة الفلسطينية التوقف عن رؤية نفسها ضحية من خلال العمل والنشاط في مجال الدفاع عن حقوق المرأة فقط، بل يجب أن تقتحم مختلف المجالات وتظهر تفوقها وقدراتها على العمل.
رهام عودة محللة سياسية فلسطينية، تقول: "يجب أن تتوقف الفلسطينية عن رؤية نفسها ضحية وتقتحم مختلف المجالات"
وتُبين رهام الحاصلة على جائزة المرأة المبدعة لعام 2017، أن الواقع النسوي الفلسطيني يحتاج المزيد من الدعم، ودوره يجب تفعليه على مستويات أكبر، إلا أنه يمضي إلى الأمام ويتطور، ولا يجب اعتبار المعيقات والتحديات العديدة ذريعة لعدم النجاح.
وتشكل النساء ما نسبته 17.2% من القضاة، و22.5% من المحامين المزاولين للمهنة، و16.7% من أعضاء النيابة العامة، أما السفيرات الفلسطينيات فيشكلن أقل من 6%، فيما تشكل المهندسات المسجلات في النقابة 21.1%.
اقرأ/ي أيضًا: